خراب أفاميا

محمود الزيباوي

السبت 2019/06/08
أعلن المدير العام للآثار والمتاحف السورية، محمود حمود، أن موقع أفاميا الأثري تعرض للتخريب، وأشار إلى حفر منتشرة في أرجائه تدلّ على أعمال تنقيب غير شرعية وتدمير واستباحة طاولت أجزاء عديدة منه، ما أدى إلى استنزاف الكثير من مقتنياته بغرض السرقة والنهب. وقد امتدت هذه الأعمال إلى متحف أفاميا، وطاولت الكثير من محتوياته، كما يُظهر المسح الأوّلي الذي نفذته المديرية. من جهته، قال رئيس دائرة الآثار والمتاحف في حماه، عبد القادر فرزات، أن الآليات الثقيلة استُخدمت في عمليات التنقيب الهمجي عن الآثار لسرقتها وتهريبها، ولفت إلى أنه "لا يمكن حصر القطع المسروقة في المتحف، إلا بعد إجراء جرد كامل وتشكيل لجنة لذلك". وأكّد ان دائرة آثار حماة، ستقوم بتوثيق كامل التعديات وأعمال التخريب التي طاولت آثار هذا الموقع، ومراسلة الجهات المسؤولة لمخاطبة الجهات الدولية المعنية عن حماية الآثار عالمياً.

تقع مدينة أفاميا الأثرية وسط سهل الغاب المنبسط في المنطقة الوسطى من سوريا، بين جبال اللاذقية غرباً وجبل الزاوية شرقاً، وجسر الشغور شمالاً، ومصياف جنوباً، على بعد 54 كم شمال غربي مدينة حماه، ويقع إلى جوارها حصن قديم حمل اسمها في الماضي، ويُعرف اليوم باسم قلعة المضيق. ويُعتبر هذا الموقع من أجمل مواقع محافظة حماه وأهمها. تتميّز هذه المدينة الأثرية بشارع مستقيم طويل يعود للقرن الثاني الميلادي، تحوط به سلسلة من الأروقة. وتضمّ أطلالها ساحة عامة، ومقبرة واسعة، ومسرحاً يُعدّ من أكبر المسارح الرومانية، إضافة إلى كنيسة ذات شكل رباعي محاطة بباحة لها أبواب عديدة. في هذه المدينة وفي المناطق المجاورة لها، كشف المنقبون عن سلسلة من ألواح الفسيفساء أظهر الدراسات انها من أهم الفسيفساء الرومانية في العالم، ومن أجل حفظ هذه الثروة الأثرية، قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بترميم الخان العثماني الأثري المنسوب إلى سنان باشا، وجعلت منه متحفاً خاصاً بمنطقة أفاميا افتُتح العام 1982.

مدينة رومية
تُعتبر أفاميا من أشهر المدن السورية القديمة، وهي في كتب الجغرافيين العرب "أفامية" و"فامية". ذكرها اليعقوبي في أواخر القرن التاسع في "البلدان"، وقال: "مدينة فامية، وهي مدينة رومية قديمة خراب على بحيرة عظيمة وأهلها عذرة وبهراء". وذكرها من بعده العزيزي في "المسالك والممالك"، وقال: "كورة أفامية مدينة عظيمة قديمة على نشز من الأرض، لها بحيرة حلوة يسقيها النهر المقلوب"، أي نهر العاصي. وذكرها اليعقوبي في نهاية العصر العباسي في "معجم البلدان" مرة باسم "أَفَامِيَةُ"، ومرة باسم "فَامِيَةُ"، وقال في تعريفه: "مدينة كبيرة وكورة من سواحل حمص"، و"مدينة حصينة من سواحل الشام وكورة من كور حمص"، ونقل عن البلاذري في "الفتوحات": "سار أبو عبيدة في سنة 17 بعد افتتاح شيزر إلى فامية، فتلقّاه أهلها بالصلح فصالحهم على الجزية والخراج"، كما ذكر قول المعرّي: "ولولاك لم تسلم أفاميّة الرّدى"، وقول الشاعر الحلبي عيسى بن سعمان: "ليتَ العواصم من شرقي فاميةٍ/ أهدَت إلي نسيمَ البان والغَرَبِ".

خربت أفامية في منتصف القرن السادس إثر غارات الفرس المتعددة، وساهمت الزلازل التي تعرّضت لها في هدم ما تبقّى منها، وأهمها زلزال 1152. في زمن الحروب الصليبية، ذكرها أسامة بن منقذ في "الاعتبار"، وقال: "سرنا إلى أفامية، ولقينا فارسهم وراجلهم في الخراب الذي لها، وهو مكان لا يتصرف فيه الخيل من الحجارة والأعمدة وأصول الحيطان الخراب، فعجزنا عن قلعهم من ذلك المكان". وفي الأمس القريب، ذكرها العلّامة الغزّي في "نهر الذهب في تاريخ حلب"، وقال: "هي الآن خراب قرب قلعة المضيق، ويظهر لسورها بعض أطلال، وفيها طريق محفوف بالأعمدة المرمرية في وسطه آثار هيكل". في هذا الموقع، أجرت بعثة أثرية بلجيكية سلسلة من الحفريات دامت من 1930 إلى 1935، وذلك بمعدل سبعة أسابيع من خريف كل سنة. تمّت هذه الحفريات في شمال المدينة، على طول كيلومترين، على حدود السهول المجاورة للضفة اليمنى من العاصي، وكشفت عن بعض أوابد المدينة، وأظهرت قسما من آثارها، كما أقامت نموذجا مطابقا لشارع أفاميا المستقيم داخل المتحف الخمسيني في بروكسل.

تعاقبت حملات التنقيب في النصف الثاني من القرن العشرين، وكشفت عن آثار بديعة، دخل بعضها متحف أفاميا. في سنوات الحرب الأخيرة، ألحقت عمليات النهب المتواصلة أضراراً كبيرة بأعمدة المدينة ومعالمها الأثرية، كما ألحقت الخراب بمتحف اللوحات الفسيفسائية. بحسب شهادة عبد القادر فرزات، شهد شارع الأعمدة أكبر التعديات، ويبلغ طول هذا الشارع 1850 متراً، ويضم 1200 عموداً، وهي من أندر الأعمدة على المستوى العالمي، "وأهمها تاريخياً وأثرياً، نظراً لهندستها الحلزونية الفردية، التي تسمح بكسر الضوء وتحويل مساره". طاولت هذه التعديات المسرح والكنيسة والمتحف، وغيرها من الأماكن، وبلغت "العمود الزمني الفريد من نوعه والموجود داخل المتحف، نظراً لرمزيته التاريخية، فهو يقيس المسافة بين مدينة أفاميا الأثرية، ومدينة لرفنية الواقعة جنوب مصياف، بطول 21 ميلا، كما هو مكتوب عليه".

ألواح فسفساء
من أفاميا، خرجت ألواح فسيفساء استثنائية تعود إلى الفترة الممتدة من القرن الرابع إلى القرن السادس، منها ألواح تنتمي للعالم "الوثني" القديم، وألواح تنتمي للعالم "المسيحي" الحديث العهد. تشهد هذه الألواح للتحولات التي عاشها العالم المتوسطي في هذه الفترة بشكل فريد. كما هو معروف، دخلت الكنيسة مرحلة جديدة في مسيرتها سنة 313 مع اعتراف الإمبراطور قسطنطين بها من خلال "ميثاق ميلانو" الذي اعترف بالمسيحية دينا من الأديان، يسانده الإمبراطور من غير أن يفرضه على الجميع. في ذلك الزمان، تشكّلت العقائد المسيحية الرئيسيى، بينما كانت المذاهب العرفانية والمانوية والأفلاطونية الجديدة تعيش أفولها الذهبي.

انتفضت هذه المذاهب انتفاضتها الأخيرة في الربع الأخير من القرن الرابع في عهد الإمبراطور يوليانوس الفيلسوف الذي يدعوه المسيحيون "الجاحد"، وكانت الغلبة الأخيرة للكنيسة مع ارتقاء تيودوسيوس العرش الذي أعلن المسيحية دينا واحدا وحيدا للدولة، وأمر بإغلاق المعابد الوثنية في أصقاع الإمبراطورية سنة 380. 

أكمل آباء الكنيسة مسيرة الآباء المدافعين الأولين في احتضان الثقافة الكلاسيكية وتهذيبها من كل ما هو مخالف للإيمان. هكذا حلّت الفلسفة في المرتبة الثانية بعد الإيمان، فهي على أهميتها تظلّ عاقراً من دون الإيمان، تحبل من دون أن تلد أبداً، على مثال ابنة فرعون التي احتضنت موسى وأرضعته من لبنها، من دون أن تكون الأم التي أنجبته. ونرى المثال الصارخ لهذا التحول الثقافي في أفاميا، معقل الفلسفة الهلنستية الأخير. هنا، نعثر على طبقتين من الفسيفساء، السفلى وثنية، والعليا المسيحية، إشارة إلى انتصار الثانية على الأولى. من الطبقة الأولى، خرج لوح كبير يمثل عودة عوليس الظافرة، بطل أوديسة هوميروس، وهذا اللوح محفوظ في متحف بروكسيل الملكي. من هذه الطبقة كذلك، خرج لوح آخر يمثل الحوريات وهن يخضعن لمسابقة الجمال، ولوح ثالث يمثل سقراط وسط ستة من الحكماء، ودخل هذان اللوحان متحف أفاميا.

صورة سقراط
تخرج صورة سقراط وسط الحكماء عن النسق المعهود في تصوير جلسات الحكماء، وتتبنّى نموذج مشهد كسر الخبز الذي انتشر في الفن المسيحي الأول. الصورة التي اقتبسها المسيحيون عن مشهد المأدبة الرومانية، يتسعيدها هنا الفن القديم في انتفاضته الأخيرة. يجلس سقراط في المكان المخصص للمسيح، راسماً بأصابعه إشارة الفلاسفة التقليدية، تلك التي جعل منها الفن المسيحي الجديد إشارة للمباركة. مع صعود الكنيسة إلى السلطة، يسقط المعبد وتُدفن صور الحكماء وأبطال الأساطير تحت الأرض لتُشيّد في المكان نفسه كنيسة تتحوّل في 533 إلى كاتدرائية، إثر الزلزال المدمّر التي تعرضت له المنطقة. تزيّن هذه الكاتدرائية أرضية من الفسيفساء تغيب عنها الصور الآدمية، وتحلّ مكانها تآليف متناسقة تتناغم فيها صور الكائنات الحيوانية المتعدّدة. يحضر الرمز المسيحي في صورة أيل ينتفض بقوائمه في وجه ثعبان: تتطهر النفس المشتاقة إلى الله من الشرور وتقضي عليها، تماماً كما يطأ المسيح الأسد والأفعى، ويدوس الشبل والتنين.

ضمّ متحف أفاميا هذه الفسيفساء، الى جانب بعض الألواح التي تُعتبر من كنوز هذا الفن العريق، منها فسيفساء من نهاية القرن الخامس، تعود إلى كنيسة كشف المنقبون عنها في قرية حورتة، شمال أفاميا. في هذه الفسيفساء، يظهر آدم سيدا على العرش في نموذج تنفرد سوريا بابتكاره كما يبدو. نراه حاملاً كتاب الحياة، تحوطه الحيوانات الدنيوية والخارقة، ومنها النسر المجنّح الذي يرمز إلى الصعود والخلود، والعنقاء التي ترمز إلى الموت والجحيم. يظهر آدم سيداً على الموت والحياة، كأن الشخص المرموز إليه ليس "آدم القديم"، بل "آدم الجديد"، المسيح المعيد إلى الخليقة حسنها الأول. ويؤكّد هذه الرؤية حضور طائر الفينيق وعلى رأسه هالة ذات شعاعات سبعة. والفينيق القائم من الموت يرمز إلى المسيح منذ القرن الثاني.

ماذا يبقى من كنوز مدينة أفاميا التي هي قيد التسجيل في لائحة التراث العالمي، وهل سلمت ألواح الفسيفساء المثبتة في أرض متحفها من الخراب؟ في انتظار كشف بالأضرار التي حلّت بهذا الموقع، لا نملك سوى أن نتحسّر على خراب سوريا المتواصل ونبكي ضياع آثارها التي لا تُقدّر بثمن.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024