الأصنام تسقط في زمننا أيضاً

شادي لويس

السبت 2020/06/13
نهاية الأسبوع الماضي، في بريستول، المدينة الإنكليزية ذات التاريخ الطويل مع أعمال الشغب، يطيح المتظاهرون بتمثال، إدوارد كولستون، تاجر العبيد من القرن السابع عشر، ويُسحل في شوارع المدينة حتى الميناء، وهناك يلقى في المحيط، في المياه نفسها التي ابتلعت مئات الألوف من جثث الأفارقة المخطوفين، هؤلاء الذين فقدوا حياتهم على متن سفن العبيد المكدسة في الطريق إلى العالم الجديد. يصف عمدة المدينة، مارفين ريس، الأسود من أصل جامايكي، التمثال بأنه "إهانة شخصية"، ويومية في ميدان عام، إهانة لذكرى الضحايا وللحاضر أيضا. 


يختار صلاح أبو سيف، رائد الواقعية في السينما المصرية، أن يختم فيلمه "فجر الإسلام" (1971) بمشهد تحطيم الأصنام، تلك اللحظة الفارقة التي تفصل عالم الجاهلية عن عالم آخر تماماً يأتي بعدها. الهدم ليس فعلاً رمزياً هنا -وإن كان لا يخلو من رمزية بالطبع- بل هو فعل مادي صرف، مغرق في واقعيته. ضمن مصادر أخرى كثيرة، يكتب عبد الحميد جودة السحار سيناريو الفيلم مستعيناً بكتاب "الأصنام" لابن الكلبي، طقوس العبادات الجاهلية وتصميم الأصنام في الفيلم جميعهاً بلا شك، مقتبسة من الكتاب، وأحياناً بشكل حرفي. لكن الحس الواقعي في كتاب "الأصنام" يظهر أكثر عمقاً وحساسية من واقعية أبو سيف والسحار معاً، فكاتبه الذي دونه في نهاية القرن الثاني الهجري كان أقرب من الحدث التاريخي، وأكثر تفهماً لمعناه المباشر. ليس من باب المصادفة أن يكون ابن الكلبي مرجعاً في الأنساب أيضاً، فأصنام الجاهلية كما يصفها ليست مجرد موضوع للعبادة، بل نقطة التقاء خطوط شبكات من الأساطير والتاريخ الجمعي وعلاقات الهيمنة والمواريث، والموالاة والقرابة والتوازنات والتحالفات القبلية، تجسيد لكل ذلك في صورة مرئية وكتلة صلبة ملموسة، فالصنم كما يمكن فهمه من ابن الكلبي ليس ترميزاً للمادي، بل العكس تماماً، أي تجسيداً للرمز.  
في الولايات المتحدة، تكثفت خلال الأسبوع عمليات تخريب التماثيل، لطخت تماثيل كولومبوس من مدينة إلى أخرى، في بوسطن قطعت رأسه، في مينسوتا يسقطُ تمثال آخر له ويُسحل، تماثيل قادة الفيدرالية تُهاجم عبر الولايات. استهداف التماثيل ينتقل إلى بلجيكا، تماثيل الملك ليوبولد الثاني، المسؤول عن مقتل الملايين في الكونغو، تغطى بالغرافيتي في بروكسيل، سلطات مدينة لوفين تزيل تمثالاً له وتنقله إلى متحف. 

تاريخ الأديان الإبراهيمية في أحد أوجهه، حرب طويلة ضد الأصنام وحولها، هدمها وأحياناً تنصيب الجديد منها. تعود تيمة معارك الأنصاب مرة بعد مرة في روايات ميلان كونديرا، براغ مدينته المزروعة في كل ركن بتماثيل القديسين أكثر من أي مدينة أخرى، يقول إن أنصابها انتقام كاثوليكي من حركة "هس" البروتستانتية التي قمعت بعنف شديد، كل تمثال على جسر كارل الشهير على نهر الفولتافا هو نصب للإخضاع وتحذير موجه للمستقبل أيضاً.

قبل أيام، ترفع إدارة حي "تاورهامليت" في شرق لندن، تمثال تاجر عبيد آخر، روبيرت ميليغان، وتنقله إلى متحف. التماثيل في المتاحف تصبح جزء من التاريخ، في الساحات العامة جزء من الحاضر. تمثال للملكة فيكتوريا تم تشويهه بالغرافيتي، ودعوات إزالة تماثيل شخصيات تاريخية جالبة للعار تنتقل إلى فرنسا وإيرلندا والبرازيل. 
الإيمان البدائي بالسحر الذي يسكن الأصنام انتقل إلى الدولة الحديثة، العلمانية احتفظت بتماثيلها أيضاً، في الساحات العامة والمتاحف، معابد التنوير وما بعده. تماثيل لينين الساقطة والمسحولة في عواصم شرق أوروبا مع انهيار السور برلين، صورة تمثال صدام حسين يضرب بالأحذية، تلك التي لا تنسى، النظام السوري وهو يعيد نصب تماثيل الأسد في ساحات المدن التي يسترجعها، المعركة التي لا تنتهي، وفي كل لحظة فارقة تسقط الأصنام وينصب غيرها، لا كرموز، بل كواحدة من ساحات الصراع، المادية جداً والواقعية إلى أقصى درجة. 

يدرك المحتجون حول العالم هذا كله، غضبهم ليس صورياُ، والتماثيل ليست مجرد أهداف سهلة، خصومهم أيضاً يدركون الأمر بالقدر نفسه، وربما أكثر. الشرطة تنصب المتاريس حول تمثال تشرشل في وسط لندن، بعد تشويهه، كتّاب أعمدة يقارنون الأحداث بتفجير طالبان لتماثيل بوذا وفي أفضل الأحوال بالثورة الثقافية في الصين، جماعات من أقصى اليمين البريطاني تعلن عن نزولها للشوارع نهاية الأسبوع لحماية "التراث الوطني"، ووسائل الإعلام تحذر من عنف متبادل، التماثيل قادرة حقا على إثارة الكثير من العنف. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024