محمد خضير.. البصرة الجديدة

المدن - ثقافة

الخميس 2018/10/11
كان لهذا الكلام أن يكون ممكناً قبل ثلاثين عاماً، بعد خروج العراق من حروبه مع جيرانه، مثخنَ الجراح، وقد استطاع بروح مستبطنةٍ داخله، لعق جروحه؛ أما اليوم فقد يبدو كلامنا من نوافل القول، أو من أخاديد الجراح.

آنذاك، كان التفكير ببناء البصرة الجديدة حاضراً في أذهان الجيل الذي ازاحته الحروب من مراكز القرار والتخطيط لمستقبل بعيد. لكن شاء الوضع ان تستولي على مقادير العراق قوى مكفهرة النفوس، متجهمة الوجوه، لا تصغي للصرخات الصامتة، ولا تستجيب لتخطيط العقول الشابة المتحررة. آنذاك كان ممكناً أن تشرع الأيدي المكلومة ببناء مدينة البصرة الجديدة، يتوسطها "برج الرؤيا" الذي يستشرف ماضياً قديماً صار منسياً، ومستقبلاً جديداً للأجيال التي لم تولد بعد.

خرجت المدينة من نزاعاتها الطويلة قبيحةَ المنظر، شائخة؛ وظلّ شطّ العرب العجوز "نهراً أسمر" كإله غاضب، حسب وصف إليوت لنهر التايمز. وحان ابتداء دورةٍ جديدة من أدوار النشوء والانقراض. فقد أتخِم النهرُ بالسفن الغارقة والجثث، واقتُلِعت من ضفتيه بساتينُ النخيل. صار الأخضرُ الجميل أقرعَ مصهوداً، وأملحَّت عيناه من البكاء لكثرة ما ابتلع من الويلات. أمّا المدينة فقد تسلّمت إشارة من "برج الرؤيا" بالرحيل والعودة الى موقعها القديم قبل خرابها بيد الزنج في العهد العباسي المتأخر أو قريباً منه. كان على التوأمين الأخضرين أن ينفصلا بعد التصاقٍ مرير.

كلنا يعلم أن شطّ العرب كان بمثابة الزائدة الدودية لدجلة، فاستحقّ أن يسمّيه أحد الرحالة بدجلة العوراء؛ وكان هذا الجزء الدوديّ يجري لمصبّ له وحده في الخليج. بينما الفرات ينساب في فلاته حتى مصبّه المستقلّ عن توأمه على بُعد عشرين كيلو متراً. وعلى ضفة الفرات اختار مسلمو الجزيرة المهاجرون بناء البصرة الأولى، في وادٍ ذي حجارة بيضاء، لتكون بعيدة من مسالح النهر قبل فتح فارس. وشاء البناة الأوائل أن تحفّ المدينةَ الأولى قناتان واسعتان من جانبيها الشمالي والجنوبي هما نهرا الأبلة والمعقل، إضافة إلى مئات الأنهار، تصبّ كلها في مجرى الفرات فتشكّل بذلك دلتا خصيبة ببساتين النخيل، هي (كلأ) البصرة الأولى. غير أن البثوق الكثيرة التي أحدثها فيضان النهرين وإهمال أنظمة الريّ ورواسبُ الطميّ شكلت بركاً ومستنقعات سُميت بالبطائح أو الأهوار أكبرها هور الحمار. ونتج عن هذه الرواسب اقتراب ضفاف النهرين واقترانهما في موقع "القرنة" خلال القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي).

فلما حدثت ثورة الزنج وأحرِق الكلأ واستبيح العمران وهلك السكان (يقدّر عددهم بثلاثمئة ألف نسمة) قرر الموفق العباسي بناء مدينة موازية للمدينة القديمة سميت بالموفقية على شط العرب نُقلت اليها الأموال والأعمال والصناعات والتجارات، ولعل سكنتها اليوم غير سكنتها الأولين الهالكين.

ويبدو أن بصرة "الموفق" التي أصبح عمرها اثني عشر قرناً، وقد اكتظت بآلاف المهاجرين والنازحين، ترنو الى العودة الى موقعها الأول على الفرات، بعدما شارفت على عهدَ خرابها الثاني. فعقيدة التداول والتواصل بين الخطط القديمة والجديدة هي آخر ما قد يُخطِره "برج الرؤيا" من وراء الأبعاد والمسافات غربي النهر الناضب للسكان المتزاحمين قرب شط العرب.

دعوا الشطَّ الأقرع لحاله، وأبقوا لمدينة "الموفق" ما تكرّره من بقايا الصناعات، ومصارف المياه الآسنة، واتجهوا فراسخ نحو مجرى الفرات القديم؛ فهذه رحلة البدايات المعكوسة، وخروج الأبناء الناشئين إلى بقاع الحرية والانفساح.

لِمَن تراني أوجّه هذه الخطة، بعدما حالت بيني وبينها السنوات الخوالي؟ أأوجهُها الى الحشرة الحائمة على شاشة كتابتي الساطعة، تزاحمني على بقعة حريتي؟ ما ضرّني أن أخصّ الذبابةَ اللحوحَ دون غيرها بهذه الرؤيا؟

(*) مدونة كتابها القاص محمد خضير في صفحته الفايسبوكية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024