كوستا غافراس لـ"المدن":تراجيديا اليونان..والخيانة الأوروبية

محمد صبحي

الأحد 2019/11/17

 

أوروبا، صيف 2015. السيناريو الأكثر ترويعاً يحدث في اليونان. بعد سبع سنوات من سياسات تقشف شديد فرضها الاتحاد الأوروبي، بدعوى الإصلاح الاقتصادي، اختارت البلاد رئيساً يسارياً جديداً: ألكسيس تسيبراس. أمل المواطنون أن يضع حداً للضرائب المتزايدة وتخفيض الأجور وغيرها من "إصلاحات"، طالب بها الدائنون واستكملت دائرة محكمة العبث من إفقار المواطنين وتفريخ أعباء ديون جديدة. الانهيار الاقتصادي، كما هو متوقع، جلب عواقب اجتماعية مدمرة: هجرة نصف مليون شاب في بلد لا يتجاوز عدد سكانه اليوم 11 مليون نسمة. أولئك الذين بقوا في اليونان اختبروا انخفاض رواتبهم بمقدار النصف تقريباً، فيما اُغلقت عشرات المدارس والمستشفيات لعدم وجود موارد بشرية لتشغيلها.

بعد فوز تسيبراس، أصبح وزير الاقتصاد، يانيس فاروفاكيس، من المشاهير. بياناته الحارة التي وصف فيها سياسات الترويكا بـ "الإرهاب"، أسهمت في ذيوع اسمه، حتى إنه وصل إلى الشاطئ الآخر من المتوسط وضمن حضوراً ثابتاً في نقاشات بعض المصريين، بعدما أطاح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالعملة المصرية وخضع لشروط صندوق النقد الدولي في انتهاج سياسة اقتصادية تقشفية لا تزال آثار نتائجها الثقيلة تلقي بحملها على كواهل قطاعات واسعة من المصريين.

رغبة الوزير اليوناني في حصول بلاده على "فترة راحة" والتفاوض من جديد على شروط وطرق تسديد الديون للبنوك الأوروبية، أدخلته في معركة اقتصادية لا هوادة فيها ضد هيئات الاتحاد الأوروبي، وخاصة ضد من سيكون أشرس خصومه: جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية؛ فولفغانغ شويبله، وزير المالية الألماني؛ وماريو دراغي، رئيس البنك المركزي الأوروبي. في النهاية، كما هو معروف، استقال الوزير اليوناني.

حكاية يروي تفاصيلها الكارثية والمأسوية والكوميدية فيلم "كبار في الغرفة"* للمخرج كوستا غافراس**، باقتباسه، من بين مصادر أخرى ثانوية، مذكرات وزير المالية اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس التي يوثّق فيها تفاصيل مفاوضات اليونان وقت أزمتها المالية في 2015، ليدين سلوك المجتمع الدولي في السنوات التالية للأزمة الاقتصادية التي أفقدت اليونان إتزانه وخاصة السياسات التي فرضتها الترويكا.

في الفيلم، يلعب الممثل اليوناني كريستوس لوليس دور فاروفاكيس باقتدار. نتابع مفاوضاته الماراثونية مع خصومه الأوروبيين، ومناقشاته الكوميدية مع متطرفي اليسار في حزبه، فضلاً عن سجالات هادئة وصامتة مع رئيسه تسيبراس. فضّل رئيس الحكومة الاستماع إلى مجاملات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وبنهاية المشوار، "باع" شعبه. إنها تراجيديا إغريقية معاصرة، وليس أبطال الروایة بالضرورة أخیار أو أشرار، ولكن تسوقهم عواقب المبادئ والأفكار التي یعتنقونها فی ما یتعلق بما یتوجّب علیهم القیام به من أفعال.

دون الوقوع في الخطابيات والمباشرة، يتابع الفيلم حكايته بإيقاع حيوي لاهث ونبرة تشويقية وأسلوب تسجيلي جاف ومشهدية مسرحية. ورغم أن معظم أحداث الفيلم تدور داخل غرف المؤتمرات المغلقة، لكنها تحمل الكثير من الدراما والصراع حول سبل حل الأزمة اليونانية. مدهش كيف يعرّي الفيلم ألاعيب السياسيين والمصرفيين، ويكشف كواليس لا تظهرها الشاشات والمؤتمرات المتلفزة. على طول الطريق، يظل صاحب أفلام "زد" (1969) و"حالة حصار" (1972) مخلصاً لرواية الوزير عن كفاحه لإنقاذ اليونانيين من اتفاق دمّر اقتصادهم ومستقبلهم. سياسة التقشف وعواقبها النهائية، يصفها كوستا غافراس مراراً وتكراراً بأنها "لاإنسانية"، والتي، على حد تعبيره، ينطبق عليها مَثَل "ذلك المزارع الأحمق الذي ظلّ يضرب بقرة جافة لحثّها على درّ المزيد من اللبن وفي النهاية لا يحصل منها على أي شيء".


كوستا غافراس (1933- لوترا إيراياس، اليونان) إسم سينمائي كبير ارتبط بسينما القضايا الدولية وخفايا الألعاب السياسية. ورغم أنه لا يعيش في اليونان وبات يعتبر نفسه فرنسياً، إلا أنه مشغول بمشاكل بلده الأول. في شبابه، اضطر للذهاب إلى باريس للدراسة في سن الثامنة عشرة لأنه، بصفته نجل أحد قادة الحزب الشيوعي اليوناني، مُنع من العيش في اليونان. مناخ من القمع اندلع بكامل عنفه مع انقلاب عام 1967، عندما كان عمره 34 سنة وأخرج للتو فيلمه الفرنسي الثاني؛ أدّى في نهايته إلى "ديكتاتورية العقداء" الدموية. في عام 1969، حصدّ أول جائزة أوسكار له بفيلم "زد"، من بطولة إيف مونتان وجان لوي ترينتينيان، وحكايته الأليغورية عن النظام اليوناني اليميني المتطرف، مدشناً إياه راوياً كبيراً للثورات الجيوسياسية.

أدان المخرج لاحقاً عمليات التطهير الستالينية في "الاعتراف" (1970)، كتابة الإسباني خورخي سيمبران، والمناورات المشبوهة لوكالة الاستخبارات المركزية في "حالة حصار" (1972)، وهي مسألة سيعود إليها في سياق انقلاب الجنرال التشيلي أوغستو بينوشيه الذي رعته الولايات المتحدة في فيلمه الشهير "مفقود" (1982)، الفائز بسعفة كان الذهبية وأوسكار أفضل سيناريو مقتبس، مع جاك ليمون في دور أب يبحث عن ابنه في تشيلي في خضم حكم ديكتاتوري شامل.

في السادسة والثمانين من عمره، لا يزال غافراس حاضر الذهن وجذاباً وأنيقاً للغاية. حين يُسأل عن سلوكه المثير للإعجاب ومرحه، يجيب بابتسامة: "لا أفعل أي شيء خاص للحفاظ على لياقتي البدنية. لا أذهب إلى الجيم، وهو ممل للغاية أساساً. في الواقع، أعتقد أنه أمر وراثي. الطبيعة تعاملني جيداً". "المدن" التقت السينمائي المخضرم في القاهرة، فكان هذا الحوار.

 

 - كيف وُلِد فيلمك؟

نحن لا ننسى أبداً البلد الذي ولدنا فيه، خاصة عندما تكون دولة مثل اليونان. عندما اغتصب العسكر السلطة في السبعينيات، غمرني الإحباط وإحساس الخيانة. أزمة التقشف أغرقت الأمة في الموقف نفسه، وفي الفيلم ثورتي وغضبي على هذا الوضع. أتذكر عندما قرأت مقابلة مع فاروفاكيس في صحيفة "نيو ستيتمان" بعد استقالته مباشرة؛ علمتُ أنني وجدت ما كنت أبحث عنه منذ فترة طويلة: موضوع فيلم عن أوروبا تحكمها مجموعة من الناس المنفرّين المتنصّلين من القيم الإنسانية والسياسية والثقافية، أوروبا مهووسة بالأرقام ولا شيء غير الأرقام.

المفاوضات بين فاروفاكيس ومجموعة اليورو كانت أبعد ما يكون عن قيم التضامن التي ألهمت تأسيس الاتحاد الأوروبي. الآن، أكثر من أي وقت مضى، لا يوجد تضامن في أوروبا. مثلما لا يوجد تضامن مع أولئك الذين يموتون في البحر قبل أن يصلوا إلى شواطئ الجنوب الأوروبي. وصل بنا الحال إلى وضع مؤسف: إمبراطورية أوروبية، يقودها مجموعة من الأشخاص يفكرون في مصالحهم الخاصة فقط. يجب أن يتغير ذلك.

- من وجهة نظر شخصية، كيف كانت تجربة التصوير مرة أخرى في اليونان بعد سنوات عديدة؟

كانت إجبارية في جانب منها لأن أجور الممثلين منخفضة للغاية وكان مكلفاً للغاية بالنسبة لهم للسفر إلى بلدان أخرى. هناك تقنيون وفنانون جيدون يكسبون عشرة دولارات في الليلة بالتمثيل في المسارح. غادرت اليونان في عام 1955، لكنّي دائماً ما أعود. الحالة التي علقوا فيها بعد الأزمة هي ما دفعني لإنتاج هذا الفيلم. يعيش الكثير من الناس على 400 يورو شهرياً. إنها كارثة.


- انتقلت إلى فرنسا عام 1955. هل فكرت يوماً في العودة إلى اليونان؟

لا، لقد هربت من الوضع في اليونان وأنت لا تعود إلى سجنك (يضحك). أعود في العطلات، لرؤية الأصدقاء والعائلة، ولكن ليس للعيش.


- وصفت فاروفاكيس بأنه مقاتل مقاوم. هل اعتقدت بوجود أي فرصة لديه لهزيمة إرادة ألمانيا والولايات المتحدة؟

علِم أنه لا يستطيع الانتصار. اعتقد أن صندوق النقد الدولي والمصرفيين، على الأقل، سيقتنعون بضرورة إعادة التفاوض بشأن الديون. كان فاروفاكيس مستعداً للتخلّي عن كل شيء عدا ذلك. في كتابه، يشرح كيف يمكن لهذا الهدف، المعتدل والواقعي، التحقق لو ظل رئيس الوزراء والحكومة موالين للقضية. لكنهم لم يفعلوا. الجرح الأكبر هو الثقب الأسود الذي خلفه مئات الآلاف من الشباب ممن اضطروا إلى مغادرة البلاد. صحيح أن اليونانيين يعرفون كيفية تجاوز أزماتهم، لكن عندما يهاجرون بشكل جماعي، وخاصة الشباب، يتركون وراءهم صحراء حقيقية. بالتالي، هذا التصحر هو أسوأ ميراث لأزمة لا لزوم لها.



- هل هناك صحة لانتقادات الجهات الأوروبية بأن فاروفاكيس كان متعجرفاً ومتغطرساً في المفاوضات؟

عندما يختار مخرج كتاب سيرة ذاتية لصنع فيلم، عن عمل/حادثة استمر لمدة طويلة نسبياً، فليس من المنطقي اختيار مؤلف لديه هوس أو يعاني من جنون العظمة. ألا تعتقد ذلك؟ جزء من هذا الفيلم يدور حول محاولة اغتيال فاروفاكيس معنوياً.


- هل تعتقد أن الزعماء الأوروبيين كانوا على دراية بحجم العقوبة التي فرضوها على اليونانيين؟

فاروفاكيس في كتابه، وأنا في فيلمي، يعاملان شويبله أو دراغي بطريقة متعاطفة تماماً. هناك جهد لرؤية الأشياء بشكل تعاطفي أيضاً، حتى إن كانت سياسات الأوروبيين غير كفؤة وغير إنسانية. أخشى أن تعاملهم القصة بقسوة أكبر. والحقيقة هي أنهم كانوا يعرفون جيداً عواقب أفعالهم. كل قسوة كانت متعمدة. لقد رأوا اليونان كمختبر لخطة تقشف متطرفة وعاملوا أهلها بنفس البرودة السريرية التي يعامل بها الباحثون خنازير التجارب. لكن حين تنظر إلى المسألة من زاوية أخرى، تجد أن كل واحد فعل ما هو مطلوب منه فعله، ولا يمكننا تقسيمهم إلى أخيار وأشرار. هي تراجيديا، بالمعنى الإغريقي، ولكل فرد دوره.


- دعني أكون محامياً للشيطان لأسألك: لماذا يتعيّن على الألمان دفع ثمن أخطاء اليونانيين؟

أولاً، نحن الأوروبيين دفعنا تريليونات لرهانات المصرفيين الفاشلة، وما زلنا ندفع. ثانياً، بحلول الوقت الذي يحدث فيه الفيلم، في عام 2015، كان اليونانيون قد خضعوا بالفعل لحماقات أنظمتهم السابقة. في تلك المرحلة، انخفضت الأجور والمعاشات التقاعدية بنسبة 40 ٪ والناتج المحلي الإجمالي بنسبة 28 ٪. لقد كان وقت الخراب المطلق في المدارس والمستشفيات، إلخ. لذلك، لم يكن السؤال ما إذا كان على اليونانيين أن يدفعوا، لأنهم دفعوا بالفعل ثمناً باهظاً في تلك السنة. كان السؤال، كما قال تسيبراس وفاروفاكيس، ما إذا كان من الممكن أن تتاح لليونانيين فرصة للتنفس مرة أخرى، واستعادة الثروة وتسديد الديون.



- في الفيلم، نرى كيف حاولت فرنسا أن تكون "الشرطي الجيد"، ولكن في النهاية تستسلم لألمانيا. كيف تحكم على دورها؟

فرنسا حريصة على أن تبقى السائق المساعد لألمانيا في قيادة أوروبا. لكن قادتها يعلمون أن هذا غير ممكن. هذا هو اللغز. في الفيلم، تأتي بصورة ملفوظة على لسان وزير المالية السابق ميشيل سابين الذي يقول لفاروفاكيس إن "فرنسا لم تعد كما كانت".


- هل خدعت أنجيلا ميركل، تسيبراس في النهاية؟

 مشاعري وأفكاري تنعكس في الفيلم. ما يهم الآن هو ما يفكر فيه المشاهد بعد مشاهدة فيلمي. ما هو واضح أنه إذا وضع اليسار سياسات يمينية فإنه بذلك يتفق مع تلك الفلسفة المحافظة التي تقول بعدم وجود بديل للتقشف. بعد عشر سنوات من الأزمة، انتهى المطاف باليونانيين بمعاقبة جميع الحكومات التي تطبق التقشف اللاإنساني. ذاك العام، فعلوا الشيء نفسه مع إدارة تسيبراس. على الرغم من استسلام الحكومة والبرلمان وحقيقة أن الشعب تمت خيانته، لم يستسلم اليونانيون أبداً. لقد تحملوا آلاف السنين من الهزيمة والاحتلال.


- واحدة من أكثر الأشياء المدهشة التي نراها في الفيلم، الفرق الكبير بين ما يقوله قادة أوروبا في الجلسات المغلقة وما يقولونه في المؤتمرات الصحافية. هل السياسة هي عالم النفاق؟

هذا هو السؤال الأكثر أهمية، لماذا نحن كمواطنين أوروبيين نسمح لقادتنا بأن يكون لهم وجهان ويفلتون من العقاب. إذا واصلنا السماح لهم بالقيام بذلك، فإن أوروبا ستعمّق من تدهورها وستصبح الديمقراطية مشوَّهة بشكل متزايد.


- هل تعتقد أن أوروبا العادلة والراعية ما زالت ممكنة؟

بالطبع، لكنه مجرد احتمال وليس أمراً مرجح الحدوث. بعد كارثة (دوراو) باروسو و(جان كلود) يونكر كرئيسين للمفوضية الأوروبية، أرى الأمل في أورسولا فون دير لاين. أولاً، لأنها امرأة، علاوة على أن لديها ماضياً مثير للاهتمام. هناك الكثير من الناس يعملون في الاتحاد الأوروبي على استعداد للإصلاح الحقيقي.


- جائزة شرفية في البندقية وسان سيباستيان. ماذا ترى عندما تنظر إلى الوراء؟

الأمر الأساسي الذي حاولت القيام به، ليس فقط كمخرج، ولكن أيضًا كمتفرج، هو ملاحظة كيف نعيش، وما الذي نفعله خلال فترة معينة ولماذا نفعل ذلك. على سبيل المثال، لماذا نصنع الحروب، ولماذا نقتل بعضنا بعضاً... نحن لا نحترم بعضنا بعضاً. الجميع يقول، "أوه، أود أن أُحترَم"، ولكن نحن لا نحترم بعضنا البعض أساساً.


- هل تعتبر نفسك رجلاً رواقياً، مثل يانيس فوروفاكيس، يملك الكثير من الصبر؟

نعم، عليك التحلي بالصبر، نعم (يضحك).


- ومثله، أيضاً "أوتسايدر"، في حالتك، في مجال السينما، لتفعل الأشياء بطريقة مختلفة وتخلق عالمك الخاص؟

نعم، حسناً. في الواقع، من الضروري للجميع إنشاء عالمهم الخاص من أجل البقاء بسلام. كانت لدي علاقة جيدة مع فاروفاكيس ومنذ البداية كنت واضحاً جداً. قلت: "أحب كتابك. أعطني الحقوق وسأفعل كل ما أريده. وهذا كل شيء. لن تشارك في الفيلم". استشرته حول بعض القضايا الاقتصادية التي لم أفهمها. لكنه شخصية خاصة أيضاً، فهو كاتب جيد ويعرف ما الذي يتحدث عنه.


-عنوان فيلمك "كبار في الغرفة Adults in the Room". هل تعتقد، في السياسة، أن العديد من المشاكل تنشأ بسبب عدم وجود عدد كاف من "البالغين" في الغرفة وأن الإنسان ليس حكيماً بما فيه الكفاية؟

(يضحك) أو ربما هناك الكثير من البالغين. كبار السن. هذه العبارة، "بالغون في القاعة"، أحبها كثيراً لأنها تعود إلى كريستين لاغارد (المديرة الإدارية السابقة لصندوق النقد الدولي)، والتي قالتها عندما شاهدت كل هؤلاء الناس (المفاوضون الأوروبيون) يتحدثون ويفعلون ذلك. وهذا ما رأته من حولها. أنا أيضاً أحبها لأنها الشخص الوحيد في المجموعة بأكملها الذي قال: "لا يمكن أن يدفع اليونانيون الدين، فالديون كبيرة للغاية لدرجة أنه من المستحيل دفعها. إذا طلبوا منك دفع 10 ملايين غداً، فلن يشكّل هذا مشكلة لك، لكنهم لا يستطيعون". هذا ما فكرت به.

وقبل سنوات فعلت شيئاً أكثر إثارة للاهتمام. ذهبت إلى اليونان، قبل الأزمة وفي خضم الأزمة، عندما كانت وزيرة في الحكومة الفرنسية، وأعطت الحكومة اليونانية قائمة تضم 2000 شخص لم يدفعوا الضرائب، حوّلوا ثرواتهم كلها إلى سويسرا. أخذت الحكومة اليونانية القائمة وكتبت الأسماء، ثم قالوا: "لقد فقدنا القائمة" (يضحك). كانت هي مَن قالت "لا يمكنك تحمل ذلك (دفع الدين)؛ دعنا نجد حلاً".


- ما الذي يثير اهتمامك أكثر في هذه القصة، معضلة الوضع نفسه أم العلاقات بين السياسيين الذين يتحدثون عن كيفية التعامل مع هذه القضية؟

بالنسبة للفيلم، المهم هو العلاقة بين الناس. كيف يفعلون ذلك وماذا يفعلون، وليس الحفر عميقاً في الوضع نفسه. وفي هذه الحالة، حيث يتمتع الناس بالكثير من القوة، استكشفهم وانظر ماذا يفعلون. لكن من دون الاستيلاء على حياتهم الخاصة، لست مهتماً بهم. ما يهمني هو، في هذه الحالة الخاصة من السلطة، كيف يتصرّفون. في كثير من الأحيان كان علي أن أجد الكلمات الدقيقة التي قيلت هناك، وهذا ليس سهلاً. لقد حاولت أن أكون أخلاقياً (ethical) بقدر الإمكان في ما يفعلونه.


- بشكل عام، هل تشعر بخيبة أمل من السياسيين الحاليين؟

عادة ما نشعر بخيبة أمل دائماً من السياسيين، لأنهم يعدون بكثير من أشياء لا يقدّمونها. تلك هي المشكلة. ومن وجهة نظر معاكسة، ثمة خيبة أمل أيضاً، في أنهم إذا لم يفوا بهذه الوعود لنا، فإننا لا نريدهم. نحن نحب عندما يقولون أنهم سيغيرون هذا وذاك. إذا قالوا حقيقة الأشياء، فلن نحبهم. لذلك هذه أيضاً مسؤوليتنا.


- هل تعتقد أن الأفلام يمكن أن تجعل العالم مكاناً أفضل؟

لقد غيرت السينما المجتمع لأنها سمحت لنا بلقاء أشخاص آخرين وثقافات أخرى. لكنني لا أعتقد أن فيلماً واحداً يمكنه تغيير العالم. المؤكد أننا كفنانين، لدينا مسؤولية تجاه المجتمع.


- أخيراً، ما السينما بالنسبة إليك؟

شكل غير عادي من الاتصال الإنساني. عليك أن تفهم أن السينما هي، في نهاية المطاف، فن شاب للغاية عمره حوالي 120 عاماً. من الجيد أن نرى كيف يعيش الآخرون: اليابانيون والأفارقة وأميركا الجنوبية ... ثم يروننا. إنها مذهلة. في العرض الأول، كان هناك عدد قليل، وفي الثاني عدد قليل، ومنذ ذلك الحين ذهب الملايين والملايين من الناس إلى السينما. إنها شكل غير عادي من أشكال التواصل، طالما ظلّ حرّاً. يحتاج الفنان أن يبقى حرّاً ليخبر ما لديه.


(*) عُرض الفيلم في القاهرة مؤخراً ضمن فعاليات النسخة الثانية عشر من "بانوراما الفيلم الأوروبي".

(**) كوستا غافراس (1933 - لوترا إيراياس، باليونان). مخرج يوناني - فرنسي يعيش ويعمل في فرنسا. عُرف بأفلامه ذات المواضيع السياسية، مثل "زد" و"مفقود". ترك اليونان في سن الثانية والعشرين من أجل الدراسة في باريس. التحق بجامعة السوربون قبل التحاقه بالمعهد القومي للسينما. بعد تخرجه عمل كمساعد مخرج للعديد من المخرجين الفرنسيين البارزين. قام بإخراج أول أفلامه الطويلة "قتلة المقصورة" عام 1965. نال مؤخراً تكريم مهرجاني فينيسيا وسان سباستيان السينمائيين لإسهاماته المبدعة في تطوير السينما المعاصرة. منذ عام 2007 يرأس مؤسسة السينماتك الفرنسية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024