«961 ساعة في بيروت»... المدينة من خلال مطبخها

أيوب المزين

الأحد 2021/04/18
 

إلى فاطمة مزيان، متى نجدع أنف الزمن
لنزدرد الكبّة في الحمرا، ثم نسير إلى الصنايع؟

 

يقع كتاب «961 ساعة في بيروت (و321 طَبقاً يُرافقها)»، الصادر حديثاً عن دار P.O.L الفرنسية المختصة في الشعر، في 256 صفحة تستعرض فيها الشاعرة والمترجمة اليابانية ريوكو سيكغوشي (طوكيو، 1970) علاقتها بلبنان من خلال ذكرياتها في اليابان، ومن مشاهدات ولقاءات حققتها في بيروت، بعدما دعاها بيت الكُتّاب اللبنانيّ لإقامة أدبية، أنجزت عقبها مؤلفها الذي اختارت له أن يكون كتاباُ في فن الطبخ. تكتب سيكغوشي: "لقد بقيتُ في بيروت ما يقارب الشهر ونصفه، من 7 أبريل إلى 15 ماي 2018، ما مجموعه 961 ساعة. أردتُ إنجاز بورتريه للمدينة من خلال المطبخ، أي بالاعتماد على إيماءات أولئك الذين يصنعونه، وعلى القصص التي يرويها البيارتة... إنّ المطبخ هو الأداة الوحيدة التي أملك للدنو من مدينة ما...".


قبل أيّام قليلة، وأنا أتصفّح أحد المواقع الثقافية الفرنسية، ظهر لي غلاف الكتاب وعنوانه، فسارعتُ إلى البحث عن نسخة مقرصنة له على محرّك روسي، يُقدم أحدث الإصدارات الأدبية والعلمية بشكل مفتوح، لكني لم أجده. لقد صارت بيروت، لأسباب متعدّدة، مثل فاحشة تلاحقني، في الظاهر والباطن، وبقيتُ أفتّشُ عن الكتاب وأسأل عنه، لأني مولع بالمطبخ ومسكون بالمدينة، إلى أن مكّنتني الصديقة فاطمة مزيان من نسخة إلكترونية، اقتنتها إكراماً للصداقة وتعزيزاً لحب نشترك فيه معا لكل من فاس وبيروت. قرأت الكتاب دفعة واحدة، كأني جائع إلى لبنان: تذكّرتُ خبزاً بالتمر عزمتني عليه المعماريّة ليلى حاوي، وكانت صائمة عن الدقيق والحليب واللحم، ونحن صاعدان من راس بيروت إلى تلة تطل على البحر. وعادت إلى فمي أطباق وقُبل شهية تناولتها في عين سعادة عند آل برشين، دون أن أنسى السمك برب الحار عند أبي فادي في طرابلس، وسندويشات الروستو بالخردل في مطعم بربر... لنعد إلى كتاب سيكغوشي. تكتب: "لقد كان شريف مجدلاني مُتبصّراً، فبدعوته لي العام 2018، سنة قبل الثورة اللبنانية، حثني دون وعي منّي على معاينة «عشيّة المصيبة» ...". فبأي عُدّة دخلت هذه اليابانية/الفرنسية، القادمة من «شرق المشرق» ومركز الغرب، إلى عاصمة العرب الآسيويين؟ وكيف ابتلعت وهضمت مأكولات اللبنانيين وحكاياتهم المتناسلة؟

مطابخ الكارثة

يتألف الكِتاب من 321 شذرة، مكثفة ومرقمة على التوالي بعدد الأطباق، تتنوع بين الوصف والسرد والاستفسار والاستذكار، والاستشهاد بقصص العابرين والمقيمين، في بيروت وغيرها، الذين اقتبست كلامهم داخل المتن. لا يقدّم الكتاب وصفات مطبخية، ولا يدخل بنا إلى مختبر المأكولات، بل يقترح المدينة نفسها باعتبارها مطبخاً كبيراً، على نحو يجعل للبنايات طعماً ورائحة، وبذلك فإن تذييل غلافه بعبارة كتاب في الطبخ مسألة لا تخلو من الخداع الأدبي: فحيثما وضعت سيكغوشي قدميها تسوق أمام أفواهنا وأعيننا نوستالجيا الصحون الفارغة. تكتب: "غالباً، بل دائماً، ما تكون الصحون هي الأشياء الباقية، فأثناء التنقيبات الأركيولوجية نكتشف أجزاءً من زُبْدِيَّات وصحون وطناجر. وقد شرح لي الفوتوغراف الياباني شيهيرو ميناتو كيف تم العثور على ملابس وأوانٍ بعد مرور التسونامي، مع أنه اكتسح المنازل والمصانع والطرقات المُعبّدة...". بعد أن تنتهي سيكغوشي من مُقبّلات التروما وتُمجّد غروب بيروت وأنوارها الشبيهة بلاس فيغاس، تسيح بين الزواريب والأسواق، وتقارن بين روّاد سوق الطيب وسوق المزارعين ببدارو، وتشبه اكتشاف الأطباق بتعلّم اللغات، ثم تستفسر مراوغة: "ضمن أي صيغة نكتب الوصفة؟ في أبيات شعرية؟ على شكل ملحمة؟ (...) هل من الممكن أن نكتب وصفة على طريقة ملهاة مأساوية؟ أو عبر البروزيمتر (en prosimètre)؟".

إنّ هذا الكتاب يفكر في فلسفة الذوق، وفي نوع من الشراهة الحضارية والعمرانية التي تستحضر الحواس الهائجة والذاكرة الدامية، لكنه لا يقترح وصفات جاهزة بمكاييل ومقادير، وبالتالي يصير في قلب المقاربة الذوقية/الشعرية التي طرحتها سيكغوشي في كتابين سابقين تحت عنوان "العَقول" و"الأكل الشبحيّ" (2012)، ولاحقاً في كتاب "نادي الأكولين" (2019)، الذي سبقته بطاقة بريدية كتبت عليها "المسافر الجائع – بيروت" (2018)، وهي بمثابة خريطة عامة ترشد الزائر إلى أسماء المطاعم والمشارب البيروتية. تنطلق سيكغوشي في "961 ساعة في بيروت" من معطى أن جلّ ما كُتب عن بيروت بالفرنسية، أو ربما كلّه، لا يحيل إلاّ على الحرب "كما لو كانت هذه المدينة عاجزة عن منح موضوع آخر غير الدراما". لكن سيكغوشي، في نهاية المطاف، تتورّط هي الأخرى في إيقاظ أشباح الكارثة، المعلنة والمضمرة، التي تَوّجَها انفجار المرفأ وانهيار الاقتصاد، وتخللتها الانتفاضة الشعبية على أصنام السياسة والطائفة.

آخر قدح قبل القيامة

إذا كانت سيكغوشي ممتعضة من التوظيف المبالغ فيه للدراما من أجل مقاربة المدينة، فإنها تطبخ على نار هادئة دراما جديدة، يساعدها على طهوها سكان لبنان أنفسهم، بلد «الخسارة» (dommage)، كما يُسمّيه أحدهم قبل أن يسترسل: "نتوفّر على كل شيء في لبنان. الجبال والبحر والموارد البشرية والثقافية والتاريخ والذكاء، لكن البلد يتقهقر رغم كل هذه الثروات...".  بعد شذرة عنونتها بـ"رائحة البيرة" وأنهتها بسؤال: أي رائحة تُلوّن حيّ مار مخايل؟ تنتقل سيكغوشي بغتة إلى بوسطن، ودون ربط ظاهر، تقصّ حادثة انفجار وقع في تلك المدينة الأميركية يوم 15 كانون الثاني /يناير 1919، مفصّلة في أعداد القتلى والجرحى. هل تخيفنا صديقتنا اليابانية حتى نشرب الجعة الثقيلة قبل النفخ في الصُّور؟ أم أنها تلطّف من هول ما يعيشه اللبنانيون عبر استحضار نماذج كارثية أعظم؟ كلاّ، إنها تقترح علينا المطبخ كعلاج نفسي ينتشل المُحطّمين والمكلومين من قاع القِدر، فالـ"مطبخ يسمح لنا بعيش اللحظة بشكل متقد إذا أحببنا" ويؤجّل حلول قيامتنا.

تعتمد سيكغوشي إذن على تصور مديني للمطبخ، تختلط فيها الانطباعات الشخصية بالشهادات الحية، وتمتزج فيه التوابل والسوائل بالإسمنت والحديد. هكذا، على شكل ربورتاج متشظٍ، تقابل الكاتبة بيروت بحواضر مختلفة، خاصة طوكيو التي تسكن طفولتها، بالإضافة إلى كابول ودمشق وغرناطة وغيرها، ثم فوكوشيما التي عرفت انفجاراً هائلاً بداية العشرية المنصرمة.

تتناظر بيروت 2020 وفوكوشيما 2011 على مرآة سيكغوشي، وهي تحيل على كتابها "ليست مصادفة" (2011)، وبين الفينة والأخرى يخفت التناظر وتخبو المقارنات، لتتحدث أخيراً عن المطبخ الصرف: عن الكِبة والتبولة والكعك والكفتة بالعدس الأحمر والمنسف والمفتقة والمفتول، وعن بيرة 961، أو لتستعرض على القارئ وصفات مفصلة، كوصفة الكِشك على طريقة خالد سليم. كذلك تعود بنا سيكغوشي إلى تاريخ الجوع في لبنان، لتخبرنا عن المجاعة الكبرى بين 1915 و1918 التي توقف عندها كلّ من جبران خليل جبران في مقالة عن منفاه الأميركي، والكاتب توفيق يوسف عواد في روايته "الرغيف" المنشورة عام 1939.

في الشذرات الختامية، كأنها تدعونا إلى تحلية بالفواكه والكونياك والحلوى، تتحدث سيكغوشي عن رائحة الخبز، وعن طبائع اللبنانيين، وعن بيروت باعتبارها قصيدة لابد أن تنقذ أهلها. تكتب: "... والمطبخ، كما الثورة، لا يعرف النهاية ما دام هنالك أناسٌ يسهرون عليه، في بلدانهم أو في المنافي، من أجل استعادة القوى. من أجل مائدة مثالية". تدعونا سيكغوشي للقعود إلى هذه المائدة المثالية، في سحرها وتناقضاتها، لنأكل ما لذ وطاب. ها نحن نفعل، نلبّي نداء يابانية لطيفة، من دون أن ننسى أصحابنا القابعين بين الحصار والسجن، أو نغفل صدى حكمة كتابيّة، وظفها شاعر مغربي في قصيدة يقول فيها: "وأخشى المائدة/لأن الذي يجتمع/حولها للأكل/ يجتمع حولها/للقتل/وأخشى الإنسان/ يملك عينين اثنتين/عين تأكل/وعين تقتل". فلنغمض الأعين كلها ولنحلم بأقداحنا السعيدة والأخيرة قبل قيام الساعة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024