فليكن موت ابنكِ...

أسعد قطّان

الإثنين 2021/02/15
«هنا مرَّ سيِّدُنا ذاتَ يومٍ. هنا جَعَلَ الماءَ خمراً. وقال كلاماً كثيراً عن الحبّ»
(محمود درويش)

انتصب جان عقيقي، كاهن يسوع المسيح، في وداع لقمان سليم، وأنشد بصوته المجروح بالموت ترتيلة الجمعة العظيمة الأكثر شعبيّةً في الطقس المارونيّ: «أنا الأمّ الحزينة».

لم ينشدها بإسم المسيحيّين طبعاً. فكثر من هؤلاء ما زال متلهّياً بخرافة «حقوق المسيحيّين»، ولَم يدرك بعد أنّ الحقوق التي تأتي من خارج فكرة المواطنة أضغاث أحلام... سواء بالنسبة إلى المسيحيّين أو الشيعة أو سواهم.

لم ينشدها بإسم المُؤَسّسة الكنسيّة طبعاً. فهذه ينخرها الفساد من الداخل ومن الخارج. وحين تتكلّم، تارةً تجد الكلمات وطوراً لا تجدها. وهي غالباً ما تكون منقبضة، متردّدة، مكتفيةً بالاستنكار. وأحياناً تخاف وتنسحب وتهرب.

بإسم مَن يا ترى أنشد الكاهن المارونيّ الترتيلة الحلوة؟ ليس بإسم نفسه طبعاً. فالكهنة والرهبان لا يصبحون كهنةً ورهباناً إلاّ حين يتحوّلون إلى لا شيء في عيون أنفسهم. ومن بلّوريّة اللاشيء ينبثق سيّدهم، فيصبحون بشراً عظماء... لكن في عينيه هو فقط.

ومن ثمّ، الجواب بسيط. لقد أنشد الكاهن الراهب أنشودة الأمّ الحزينة بإسم صاحب الأنشودة: السيّد المصلوب. فبإسمه وحده ينشد المغنّي مثل هذه الأغاني. وهي أغانٍ صعبة لا تليق إلاّ بالمصلوبين والمكسورين كما كان صاحب الأنشودة مصلوباً ومكسوراً.

«فليكن موت ابنك حياةً لطالبيها».

ما هذا الكلام المجنون؟ كيف تنبثق الحياة من الموت؟ لا سبيل للإتيان بجواب على هذا السؤال إلاّ بالرجوع إلى واقعة الصلب. هناك، كما يكتب مرقس الإنجيليّ، هتف المسيح: «إلهي إلهي لماذا تركتني». وكان قبلها قد تضرّع إلى الله أبيه على جبل الزيتون أن تعبر عنه كأس المنون. ينتج من هذا أنّ عنوان الحياة التي تنبجس من رحم الموت ليس التغلّب على الخوف من الموت. فالسيّد على الصليب استشعر الخوف، وأحسّ بأنّه متروك على قارعة الحياة برسم الموت الذي أصبح وشيكاً. هذا كلام كبير، لأنّه يفكّك الأساطير التي تنسجها الجماعات والقبائل والأحزاب عن «شهدائها» الذين يمضون إلى الموت بلا خوف. وبعض حكايات الكنيسة عن شهدائها «الشجعان» الذين تحدّوا الموت لا يشذّ عن هذه القاعدة. فهو ممزوج بإيديولوجيا القوّة وغطرسة الجماعة «المختارة». وهذا كلّه لا علاقة له بمنطق الصليب.

من أين تأتي الحياة إذاً، وكيف تتفجّر الحياة من الموت؟ لعلّها لا تأتي سوى من محبّة الله التي ظهرت على الصليب كما لم تظهر في أيّ مكان آخر من كتاب المسيحيّين المقدّس. بالعودة إلى حكاية الصلب كما رواها لوقا، هتف يسوع إثر تعليقه على الصليب: «إغفر لهم يا إبتاه لأنّهم لا يعلمون ماذا يفعلون». الغفران هو صنو المحبّة. والمحبّة أقوى من الموت، لا لأنّها لا تخاف الموت، بل لأنّها قادرة أن تصفح. وإذا اقترن الموت بالصفح، تفجّرت الحياة من الموت رغم الموت. وتحوّل هذا الموت إلى مكان يؤذن باللاموت ويستبق القيامة.

انتصب جان عقيقي، كاهن يسوع الذي من الناصرة، بين جموع المصلّين الذين تقاطروا كي يوّدعوا لقمان سليم، وأنشد أنشودة الحبّ الذي هو أقوى من الموت، ثمّ صمت. كانت أنشودةً تليق بلقمان الذي أحبّ كثيراً، وتطلب المغفرة لقاتليه كائنةً ما كانت هويّتهم. فهم حين أطلقوا النار عليه بكواتم للصوت، كانوا ضحيّة جهلهم وغبائهم، وكانوا مثل الذين قتلوا عيسى المسيح «لا يدرون ماذا يفعلون».
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024