بيروت بعد ربع قرن (2-2)

بشير البكر

الإثنين 2020/08/24
في المساء الأول، بعدما أن رميتُ أغراضي في الفندق، قررت أن أذهبَ سيراً، لقد واتاني الهدوء الأمني، وسمح لي بزيارة الأماكن التي لم أعرفها جيداً في السابق، سرتُ من الحازمية نحو المتحف، وواصلتُ المشي حتى وجدتُ نفسي في منتصف البلد. هنا هُدم جزء من بيروت القديمة (البرج) وبُنيت منطقة جديدة، كما رُمّم قسط لا بأس به، مثل بناية اللعازرية الشهيرة التي بقيت عصية على الحروب والمتحاربين، وهي تعد اليوم من معالم الوسط التجاري الباقية، وبجانبها آثار دمار قديم، عبارة عن بقية صالة سينما تركت لتشهد "كم هي حماقة الحرب"، كما يقول الشاعر جاك بريفير.

من هناك نزلت نحو فنادق الفينيسا والسان جورج والزيتونة، وضعت فندق "الهوليداي إن" الشهير على يميني وصعدت نحو المنارة، ثم الحمراء، لكي أجلس في مقهى "سيتي كافيه" مع بعض المثقفين، الذين كانوا يصفون آخر حسابات معرض الكتاب الذي اختتم قبل أيام. 
قررتُ الذهاب في البداية إلى منطقة الفاكهاني، قبل أن يزدحم برنامجي. أردتُ أن تكون الصدمة الكبرى لي هناك. سكنني هاجس بأن أول ما يجب أن أقوم به، هو البحث عن بقايا رائحة وآثار من خطى الرفاق، الذين عشت معهم سنوات في ذلك المربع الصغير، أصدقاء القضية الأوائل الذين وجدت عندهم وداً كبيراً، أبناء تجربة المقاومة الفلسطينية اللبنانية. كنتُ أريد أن أعود إلى زاوية شارع عفيف الطيبي المتقاطع مع "إذاعة صوت فلسطين"، حيث وقف أبو عمار أثناء يوم القصف الجوي الشهير خلال حصار شارون لبيروت، وهو مسكون بطمأنينة المقاتل الشجاع، الأمر الذي فعل فعله في المقاتلين بطريقة سحرية. في ذلك الوقت، ارتدت بيروت الكاكي ونزلت إلى المتاريس، وصار المحيط العسكري العشوائي وغير المنظم جميلاً وحزيناً، وتفاعل الشارع مع الفدائيين الذين أحسوا كل عواطف المودة والتضامن. كان صمود المقاتلين نوعاً من الرد على تلك العواطف، ولذا وصل إلى الصغير والكبير والشيخ والمرأة، وتجلى ذلك في وداع اللبنانيين لعرفات الذي خرج نحو أثينا، التي استقبلته كأنه آخر مقاتل في ممر الماراتون، وتوجته بغصن من الزيتون، وغسلت دموعه بفرح الليمون وحزن الصبار.

لدى كل زاوية تبرز لي حكاية وقصة، عشت هنا ثلاث سنوات، كانت سنوات حرب ودمار، اقتصرت الحركة خلالها على شارع واحد فقط، من الفاكهاني حتى الحمراء ورأس بيروت والمنارة، لكنها كانت سنوات غنية بالتجارب، كل شيء متداخل، اللوحة مع القصيدة بالسينما والهندسة والمسرح والنحت.

قبل الصعود في اتجاه منزل أبو عمار، أقف عند مفرق الجامعة أمام مقهى أم نبيل الذي اختفى، أستعيد تفاصيل وجوه أولئك الشبان الذين كانوا يملأون هذا الشوارع حياة وصخباً، أبناء المخيمات الذين حملوا السلاح، كنا نراهم يقفزون ويلعبون بكل عنف الحساسية الشهوانية، التي حررتها الثورة والبنادق، يعاكسون الفتيات بحيوية الإشارات وسرعة العيون وتألقها، يرتكبون حماقات صغيرة، لكن ذلك لا يمنعهم من أن يذهبوا للشهادة ببساطة، ومن ثم تعلق صورهم على الجدران بابتسامات عريضة، مشفوعة بعبارة نعي حافلة بالجمال الشعبي المبتكر. كنتُ قد اعتدت مراقبة الملصقات في الشوارع، وكان اغلبها ينعى أولئك الفتيان، بعضهم كنت أعرفه بالوجه، أحدهم كان مكلفاً بالحراسة في بناية "الإعلام الفلسطيني الموحد"، كان مغرماً بإحدى الصحافيات وهو من مخيم اليرموك في دمشق، كنت على زمالة مع شقيقته خلال دراستي الجامعية، لم أصدّق ذات صباح بأن شظية هاون مزقت جسده، وقد حضرتُ إعداد ملصقه، وألقيت النظرة الأخيرة عليه قبل أن يدفن في مقبرة الشهداء. كان موته طازجاً وحياً إلى الدرجة التي تجبر كل من ينظر إليه أن يراه جميلاً، وقد شعرت تجاهه بصداقة ومودة تليق بمن وصل إلى تحرير نفسه من العار.

أنزل من سيارة السرفيس على كورنيش المزرعة، أتجاوز "مطعم الجندول"، لكني أعود خطوات قليلة نحو الوراء لألقي نظرة استدراك خاطفة، فوجدت عالماً آخر، غير ذلك الذي عرفته حين كانت ضحكة عبد الأمير عبد الله ترن في الفضاء لتتكسر مثل موجة مسحورة بالريح، حثثت الخطى وأنا أمعن النظر في تزاحم اليافطات على الشرفات. عليَّ أن أعثر على مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، ليس هناك أدنى أثر. في سنوات السبعينات كان شفيق الحوت يدير المكتب من هنا، ولم يؤثر فيه وجود عرفات في بيروت، فقد بقي أحد نجوم الصحافة والإعلام، لكن كل شيء تغير الآن، لقد تحولت البناية إلى مجموعة من المكاتب التجارية والعيادات.

على الطرف الآخر من كورنيش المزرعة كان هناك مبنى صحيفة "الهدف"، ومقر الحكيم جورج حبش، كأن الأمر حصل بالأمس حين قابلت بسام أبو شريف وأمجد ناصر، وسهام وهبة كانت بشعرها الأسود حتى بعلبك. وقفتُ هناك عند نهاية الشارع، أمام بناية مجلة "المسيرة" التي كان يديرها ابراهيم العريس، استدرت نحو البحر، وقع نظري على كلية الآداب، فتذكرت رئيف كرم ويعقوب الشدراوي ورفيق شرف...إلخ.

أصعد في اتجاه جسر الكولا، أبحث عن ذلك الشارع الذي هشمه وحطمه القصف الإسرائيلي سنة 1982، والذي بقي محمولاً على أكتاف الفدائيين الفلسطينيين واللبنانيين، رغم رائحة الموت القوية التي غطت الأجواء، ثم انعطف نحو اليمين، لأجد أن كاراج تاكسي الشام ما زال في مكانه. أسير رويداً، أتعثر بخطواتي، أصطدم بعجوز تعبر الشارع، أعتذر منها عن عدم الانتباه، هنا كان مقهى علي فودة ملتقى شعراء الرصيف والتجارب الإبداعية الجديدة القادمة من بلدان أخرى. هنا للمرة الأولى ابتسم لي وبانت أسنانه المصفرة من التدخين، طلب مني الجلوس وأهداني ديوانه "عواء الذئب"، ونادى لي على فنجان قهوة. بعد قليل التحق رسمي أبو علي فتبادلا مزاحاً مراً، فهمت منه أنهما يتناكدان على زعامة الرصيف والسخرية من المؤسسة الرسمية الفلسطينية. علي استشهد أثناء الاجتياح الاسرائيلي سنة 1982 ورسمي رحل إلى عمان.


كان اسمه مطعم "توليدو" فأصبح اليوم "سناك توليدو"، هو المكان الوحيد الذي احتفظ باسمه في وسط تلك الغابة، وإلى جانبه البناية التي كان يتخذها "أبو إياد" مقراً، لقد صرعها وجندلها الطيران الإسرائيلي، بقي المكان فارغا حتى الآن، ونبتت هناك بعض نباتات الخباز والبابونج البري. هنا تذكرت ذلك الرجل الذي اسمه صلاح خلف، الذي كان يدير المعارك السياسية بطريقة تثير الإعجاب، ما الذي كان يسبغ عليه ذلك المظهر اللامبالي بالموت؟ّ! لا بدّ أن هناك مزية أخرى أكثر ضرورة من كل نظام المعارف!

على الزاوية بقيت "صيدلية قاروط" وبيت المفكر السوري الذي رحل في بيروت ياسين الحافظ، وعلى بعد 200 متر البناية التي كان يسكنها الفنان اللبناني أميل منعم، والشاعر السوري سليم بركات، والشاعر العراقي صادق الصائغ، والمسؤول في حركة "فتح" أمين القسام وزوجته جمالات، وغير بعيد عن ذلك في طلعة "ابو شاكر" بيت صديقنا الأثير الشاعر أمجد ناصر، البيت الأول الذي أطللتُ من شرفته على بحر بيروت، حينما بتُّ لديه تلك الليلة يوم وصولي للمدينة، وكانت زوجته هند تلد ابنته "يارا" في المستشفى. وأذكر أننا انشغلنا في تلك الليلة بقراءة قصائد ديوانه الأول، الذي صدر تحت عنوان "مديح لمقهى آخر". توقفتُ أمام البناية طويلاً، تذكرت زحف الذين كانوا يتقاطرون إلى ذلك البيت، أمجد بأريحيته البدوية ترك البيت مفتوحاً ومشرعاً للأصدقاء، سعدي يوسف، حيدر حيدر، سليمان صبح، غسان زقطان، جميل حتمل، يوسف عبدلكي، منير شعراني، سهام وهبة، سيد خميس، عماد الرحايمة، محمود النوايسة، صابر محي الدين، عماد عبد الوهاب... إلخ. على تلك الشرفة تذكرنا سان جون بيرس جيدا، "نحن الذين سوف نخبر البحر، كم كنا غرباء في أعياد المدينة!"

أنهيتُ هذه الجولة وقد أصابني إنهاك شديد، لكثرة ما تمشيت واستوقفت نفسي، من أجل استعادة صور وأسماء وتواريخ وذكريات، وعند كل ناصية كنت أجد مَعْلماً أو شاهدة سقطت من الذاكرة بدافع قدم الزمان والمكان، فقرَّرْتُ أن أعود مرة ثانية لاستكمال ما لم أقم به. كنتُ أشعرُ بأن جولتي لم تكتمل، هناك أشياء كثيرة، وهي جولة مرتبكة لم يَقُمْ بها شخصٌ يجهل المكان، بل هي عودة إلى مكان لم يبق منه سوى بعض المعالم العامة، هناك عمارات جُددتْ، وأخرى بقيت على حالها وقد اتشحت بسواد المازوت، فصارت تبعث على الأسى، وهناك مشاهد كثيرة توقظ رغبة النظر لدى الإنسان، إلى حد أنّها تستحقّ الرسم أحيانا. بنايات خربة وفقيرة ومهلهلة، لكنها ذات حياة وأسلوب خاصين بها. إن حزن الخرابات باعتباره جمالاً في المشهد يليق بهذا الشارع، الذي كان عبارة عن مقاطعة سياسية وثقافية تشد أنظار العالم نحوها، ثم تحول إلى سوق تجاري من النوع العادي جداً، البعيد من خيال بيروت السياحي، وجمالها المتعدد. لكن تلك الخرابات الحزينة التي ما تزال باقية بعد أكثر من ربع قرن، تشكل جانباً من روح المكان، الذي يحتضن اليوم الحياة التقليدية بكل قوتها.

في طريق الخروج من الحي، وقفت في المكان الذي عانقت فيه ياسر عرفات آخر مرة في بيروت. كانت لحظة صعبة بالنسبة لي أن أعود إلى هذا المكان الذي شهد أهم مواجهة عربية مع اسرائيل، أدارتها المقاومة الفلسطينية خلال أكثر من عقد من الزمن من هذا المربع الصغير الذي مشطته على الأقدام خلال ساعتين.

قمت بزيارات لأحياء أخرى عديدة، عبرت بجوار بيوت كثيرة لأرى بيروت في الصورة التي صارت عليها، في فردان والصنائع ورأس بيروت والحمراء والمزرعة وكليمنصو والرملة البيضاء والبربير والزيدانية وعائشة بكار والسوديكو والمتحف والأشرفية والكسليك وحتى جونيه. تجولت في الأماكن الحديثة وجوانب المدينة الفقيرة، وغير المنظمة، التي لم يصلها التغريب. وقفت عند منعطفات لا يرى منها سوى البحر، مغطاة بأبنية عشوائية ما تزال بادية عليها آثار الحرب والدمار. انفعلت بحركة المدينة وألوانها، بصخبها وهدوئها، بجديدها وتقاليدها القديمة، وفي كل مرة زاد المكان من فضولي المشوب بالبهجة وحب الاستطلاع، ذكّرني بأهله الأحياء والأموات، بلحظات أصالة وصفاء عصور ذهبية مرت من هنا. وقفت مشدوهاً أمام البنايات العالية، وشدّتني الأزقة الخلفية وأحوالها التي تحتفي بالحواس، ويتسرب صخبها إلى داخل الروح.

أقمت في الأيام الأخيرة في شارع الحمراء الذي بقي في الكثير من ذاته وصفاته، الشارع المحاط دائماً بالأسرار والألغاز. أحب المشي في هذه المنطقة التي ترمز لحياة بيروت الثقافية، العامرة بالمقاهي والمطاعم والفنادق. يثير التجوال في الحمراء حالاً من النشوة. الوجوه العابرة ذات ملامح تتكرر كثيراً، وتكفي الجولة هنا لطرد الكثير من الأشباح والصور السوداء، فرغم كل ما حل بلبنان من ويلات، يظل شارع الحمراء ينبض بحيوية تبعث على الدهشة والاعجاب.
لم أكتفِ بالواجهة العامة، إنما سحرتني الشوارع الخلفية المحيطة بها، بلس، المقدسي، السادات، القنطاري، لاسيما في المساءات، وليالي الشتاء، عندما وقفت مليا تحت المصابيح الباهتة، فوق أحجار البلاط القديمة، يحضرني باعة الكستناء والجلاب وعصير التوت. 

بقي شارع الحمراء بالنسبة لي مألوفاً دائماً، بأضوائه وزحامه ولياليه التي عبّرت عن طعم خاص، ما استدعى كتابة روايات وصناعة أفلام. بدأت التجوال بإيقاع هادئ، منذ البداية عند المبنى القديم لصحيفة "النهار". عبرت نحو الضفة الأخرى لكي أبحث عن مقهى الإكسبريس، فلم أجده في مكانه، حالُهُ يشبه حال معالم الكثير من المحلات القديمة، التي اضطرت لتغيير طابعها من أجل مسايرة التطورات. أصابني غم وحزن وأنا أقف على أطلال ذلك المكان الذي تحول من ملتقى يرتاده كبار الساسة وبعض المثقفين إلى ملحق بالبنك الفرنسي، هنا كان يتغذى منح الصلح وريمون إده وميشال أبو جوده وغسان تويني، ويتواعد مثقفو لبنان والعالم العربي، لكنه صار الآن مطعماً للوجبات السريعة للعاملين في البنك.

كأن هذه الصدمة لا تكفي حتى طالعتني واحدة أخرى، حينما انعطفت عند زاوية مكتب شركة  الطيران الايطالية (اليتاليا) القديم. هناك منزل ومرسم الفنان مصطفى الحلاج منذ سنة 1977، وحتى الاجتياح الاسرائيلي. وجدت في مكانه كراج سيارات ومصبغة. هناك عند تلك الناصية تواردت إلى ذاكرتي صُوَرٌ كثيرة من تاريخ المكان، بعض مرتادي ندوة الحلاج اليومية المسائية، التي كانت تنعقد بعد انفضاض جلسة مقهى الاكسبريس، الدكتور ميشيل سليمان الشاعر الذي ترجم بابلو نيرودا "سيف اللهب" ورحل مغبوناً ونظيفاً، الشاعر والمسرحي عصام محفوظ الذي كان عائداً لتوه من باريس، الشاعر والناقد نذير العظمة الذي رجع من الولايات المتحدة إلى بيروت، الفنانة منى السعودي، الفنان محمد هجرس، بالإضافة إلى مجموعة من الشباب الحالمين، الكتّاب والرسامين والسياسيين، على رأس هؤلاء كان الصحافي والكاتب الذي رحل مبكراً عبد الأمير عبد الله، صاحب الضحكة الفكاهية، التي كان صداها يتردد في ليل بيروت...

كان مرسم الحلاج أشبه ببيت ثقافي عربي، بشر تحط وبشر ترحل، ورغم أن العدد كان كبيراً على الدوام، فإن صاحب المكان لم يكن يكل من الخدمة أو يبدي تذمراً، وعلى مدى أعوام ترددت عليه في صورة منتظمة، وجدت ابتسامة الاستقبال لا تفارق محياه. كنت أتساءل دائماً، متى يجد هذا الفنان الفذ ذو العمق الإنساني الوقت للرسم والقراءة والاهتمام بنفسه؟! مرة طرحت عليه السؤال، فقهقه على عادته، وقال لي: "أنا بشتغل لما أخلص منكم وتناموا". كان لدي انطباع بأن هذا الرجل عقد خصاماً مع النوم، وفي مرات عديدة كانت الظروف الأمنية تجبرني على المبيت عنده في المرسم، وكلما استيقظت ليلاً وجدته صاحياً يتأمل، وعيناه تبرقان في الظلمة مثل ذئب الفلاة الذي يحلم مفتوح العينين. ومن سخريات القدر أن الحلاج مات بطريقة عبثية، احترق وهو شبه نائم في مرسمه بدمشق، بعدما غادر بيروت خلال الاجتياح سنة 1982!

أمام مقهى الاكسبريس لا تستطيع إلا أن تعود بذاكرتك بعيداً نحو أكثر من ثلاثة عقود إلى الوراء، إلى منتصف السبعينات، وبداية الثمانينات، لقد كان العلامة الفارقة هناك بول شاؤول، هذا الشاعر الذي لا يكل من الكتابة. كنا نراه في فترة الحرب، كل شيء من حوله احترق لكنه بقي واقفاً، لا يهتز، كان يظهر قوة لا تنفد، سكن بعد ذلك على السطوح، وما زال إلى اليوم، مثل طائر لا يستطيع حياكة قصيدته إلا في الأعالي. كان بول يمثل ألقاً خاصاً في عز انهيار ودمار وسواد بيروت واختزالها إلى شوارع صغيرة وزواريب معتمة، تقابله وأنت مخنوق من طغيان الموت والخراب، فتجده كدأب فرسان نيكوس كازانتزاكيس في "الحرية أو الموت"، يعكس بسلوكه الفروسي نبل تلك المدينة. ولا أراني أبالغ إذا قلت بأني اقتنعت لاحقاً بأن بيروت استعادت نفسها بفضل هذه الصفوة القليلة من الفنانين والمثقفين والكتّاب والصحافيين والمسرحيين ورواد الفن، ويسجل لهؤلاء الذين أبقوا على العدوى اللبنانية مستمرة ومتجذرة، وهو ما مكّن بيروت من ترميم صورتها، والاحتفاظ بدورها كمحرض ثقافي وإعلامي، لا تستطيع أن تنافسها على هذا الدور عاصمة عربية أخرى. وهنا لا بد من التنويه بدور الصحافة، التي بقيت صامدة ولم تنهَر، بل جدّدتْ نفسَها، وتطورت، وصدرت صحف أخرى في أصعب الظروف، وهو أمر يشكل مؤشرا على التمدن وبعد النظر في هذه البلد، وإيمان أهله بحقهم في الحياة.

قبل أن أغادر في اتجاه المطار قمت بجولة أخيرة في شارع الحمراء، ثم انعطفت منه نحو آخر بناية سكنتها (العيتاني)، قرب نزلة الحمام العسكري، التي كان الشاعر معين بسيسو يسكن على ناصيتها، وعلى الطرف الآخر بيت الشاعرة أمل الجراح. كل شيء تغير هنا، وأصبح قديماً، ورغم ذلك بدا لي الحي أليفاً في الأعشاب والخضرة والمتسلقات والأشجار، لقد ظهر لي الجمال بالمصادفة في خرابات وتصدعات وسط البناء الحديث، من خلال منزل قديم ظهر جزء منه عبر فرجة زقاق ينزل في اتجاه البحر، تغطي مدخله أشجار التين يبدو جزء منها في تراقصات الضوء.

لاَحَظَ بوّابُ البناية اهتمامي الشديد، والتقاطي لبعض الصور، فاستفسرني عن السبب. أوضحت له بأني سبق لي أن أقمت هنا قبل أكثر من ربع قرن. هز رأسه وظهرت عليه علامات الأسى، وقال لي: "تلك الأيام كانت أجمل، بيروت لن ترجع!"

لم يكن هدفي استعادة تلك الأيام، بل تجديد الحب لبيروت، واللقاء من جديد. كل شيء باق في الأعماق. لقد جعلت نفسي، طيلة رُبْع قرن، سدّاً منيعاً على تأثيرها، لكن بدا لي أن كل ما شاهدتُهُ في شوارعها من جمال وخراب وحزن، هو جزءٌ من ذكرياتي وذكريات جيلنا اللبناني الفلسطيني السوري.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024