"واستمرت الأشجار بالتصويت للفأس": الإنفجار قبل 4 آب

حسن الساحلي

السبت 2021/04/24
في كل مرة يقدم مروان رشماوي معرضاً أو عملا فنياً، يعيد إنتاج المدينة ونسجيها العمراني بأشكال وتصورات مختلفة. منذ خريطته الشهيرة "بيروت كاوتشوك" التي حولت بيروت إلى "شيء ملموس"، وفق تعبير الناقدة الفنية كيلين ويلسن غولدي، مروراً بسلسلة الأجساد - الأعمدة الباطونية (مستمرة منذ العام 2013) إذ فككت الأساسات المادية التي يقوم عليها النسيج العمراني البيروتي، ثم أخيراً تجهيز "بلازون" (2016) الذي يقدم أحياء العاصمة وأمكنتها، كتصور ذهني ونفسي يمكن إنتاجه والتجول داخله. 

 

يستمر هذا المسار في المعرض الأخير "واستمرت الأشجار بالتصويت للفأس" في غاليري "صفير زملر"، الذي يذكرنا بعنوان كتاب عباس بيضون "الشجرة تشبه حطاباً" (والذي ينتمي أيضاً لتقليد طويل من تشبيه الإنسان بالشجر)، بشكل خاص في تجهيز "بيروت والبحر" الذي يراه المتفرج أول دخوله إلى الغاليري، حيث يوثق عبر 13 قطعة مربعة من الإسمنت والشمع، الواجهة البحرية لبيروت والحدود التي تنتهي عندها اليابسة وتبدأ المياه، علماً أن خريطة الساحل البيروتي تتغير كل فترة، وهي ليست ثابتة بشكل دائم (وفق الفنان، أدى إنفجار المرفأ إلى حصول تغييرات طفيفة في هذه الخريطة، كما تغيرت خريطة ساحل بيروت خلال التسعينات بفعل عمليات الردم).


يستخدم رشماوي الأسمنت كمادة اساسية في أعماله منذ التسعينيات، وهي في هذا العمل المادة الأكثر هيمنة التي "تعارض وتعرقل سيولة وانسياب الشمع وتمنع نفاذه" ممثلة المدينة بوجهيها الصناعي والسياحي. شريط نحاسي، يفصل بحر الشمع عن اليابسة الاسمنتية، هو فعلياً الحدود التي تمنع المادتين من التداخل. ليست هذه الحدود طبيعية بالكامل، بل يتشكل جزء كبير منها من الردم، الذي خرج من المدينة خلال التسعينيات، بالاضافة إلى أمكنة صناعية ومكبات نفايات، وعدد من التشوهات التي حصلتْْ بفعل المشاريع الخدماتية التي احتلتْ الواجهة البحرية على مدى عقود.

جزء كبير من أعمال المعرض يعود إنتاجها إلى ما قبل انفجار المرفأ، لكن غاليري صفير أجّل عرضها أكثر من مرة بسبب جائحة كورونا. أبرز هذه الأعمال، "التعاونية"، وهي تجهيز مصغر عن مبنى مهجور كان يفترض ان يكون بديلاً لسوق الروشة البحري (1976 – 1982) ينتمي إلى سلسلة تجهيزات يعمل عليها الفنان منذ عقد ونيف، تمثل مباني مهملة ومعلقة بين الحياة والموت، تجسد فشل النظام اللبناني والحداثة بشكل عام، مثل برج المر، مبنى يعقوبيان، ومعرض طرابلس الدولي.

تمتلك بعض هذه المباني مزايا مشتركة، مثل وجود وحدات منتظمة ومتكررة بشكل آلي، ما ينطبق على التعاونية التي تبدو غرفها المكررة شبيهة برفوف السوبرماركت، كأن أحد التجار الذين تعاونوا لتمويلها، صممها بهذا الشكل كي تتسع لأكبر عدد من المتاجر!


فكرة المبنى غير عملية، وتشبه إلى حد كبير احلام الحداثة الواهمة، التي تقدم إجابات "على الورق" لأزمات المدن الحديثة، بينما تفشل على أرض الواقع، كما حصل مثلاً مع مشاريع لوكوربوزييه في مدينة برازيليا، التي حاولت التخلي عن الأسواق وضمها للمباني السكنية، وهو اقتراح ليس فقط غير قابل للتطبيق، بل أيضاً خطير لأنه يتخلى ببساطة عن أبرز فضاءات التبادل والتفاعل الإجتماعي والثقافي بين الشعوب.   

من الأعمال القديمة - الجديدة الأخرى التي كان يفترض عرضها في بداية العام الماضي، مجموعة الأعمدة التي بدأ الفنان في إنتاجها العام 2013، وتشكل تلاقياً بليغاً بين العمارة والتجهيز والفن التشكيلي. لكل من هذه الأعمدة، هوية خاصة وقصة، حيث يحيل بعضها إلى نماذج شبيهة على أرض الواقع، نجدها بشكل خاص في العالم الثالث الذي تبقى مبانيه "عارية" بسبب عدم قدرة المالكين على إكمالها و"تلبسيها" (في لبنان تعتبر مناطق بعلبك الهرمل وعكار نماذج مثالية لهذا المسار)، كما يحيل بعضها الآخر إلى عناصر بناء على علاقة بالخراب، إن كان بنماذجه المرتبطة بالحرب او الانهيار الاقتصادي، ولو أن الأولى تبقى أكثر سيطرة هنا، ما يظهر في الأعمدة التي تبدو كأنها خرجت بفعل القصف من احشاء المباني إلى الخارج، أو التي تضم تفاصيل من مشهديات الحرب بشكل عام، مثل الشبابيك المغلقة بالاسمنت وآثار الرصاص والقذائف.

يشير الفنان أنه بدأ في إنتاج هذه العواميد مع تحول الثورة السورية إلى حرب مسلحة العام 2013 "ما أعاد إلى ذاكرته صور الحرب الاهلية اللبنانية التي رآها مباشرة أو شاهدها في نشرات الأخبار". لذلك ليس مبالغة القول إن هذه الاساسات - الأعمدة، افتراضية، بقدر ما هي حقيقية وواقعية، وهي تفكك المدينة إلى مفردات ورموز، تضيف إلى اللغة المعمارية بشكل عام، بقدر ما تأخذ منها.

تشكل هذه الأعمدة أيضاً، استمرارية للمدرسة البنائية Constructivism في الفن، وهي موجة بدأت في الاتحاد السوفياتي قبل عامين من ثورة 1917، ثم قمعتها الستالينية لعقود قبل أن تولد مجدداً في بقع مختلفة من العالم. ترى البنائية، الفن، كانعكاس للمجتمع الصناعي الحديث والفضاءات الحضرية التي تشكله، كما ترى عمل الفنان، كالمهندس او التقني في المصنع، يكتسب معنى ما ينتجه، من سياق تشكل المواد التي يتألف منها عمله، وليس من المفاهيم التي تقف خلفه.

يمكن وضع جزء كبير من أعمال المعرض ضمن هذه الخانة، ما ينطبق أيضاً على اللوحات الحائطية التي تتألف من أشكال هندسية متكررة من الشمع والاسمنت (يقول الفنان أن هذه القطع الفنية تشبه الموسيقى والصوت، وبأن إنتاجها الذي يتطلب اوتوماتيكية وتكراراً، يقوم به في الوقت المستقطع بين المشاريع ما يسمح له بالتأمل والتفكير)، بالاضافة لسلسلة الأعمال التي أنتجها رشماوي بعد الانفجار وتحمل اسم "غاليري" حيث ترتكز بشكل أساسي على مواد أُخرجتْ من الغاليري بعد الترميم الذي طاوله.

المواد هي ردم باطوني، معدن من الجدران، وألمنيوم من الشبابيك، قام الفنان بتنظيمها وتعريبها بحسب النوع، في عملية تشبه "تنظيم الفوضى" وفق تعبيره. يبلغ وزن المعدن الذي استُخرج من الجدران حوالي 600 كلغ ضغطت عبر آلات خاصة لتأخذ شكل 36 جسماً "في ما يشبه النصب التذكارية للحيوات والمستقبل والذكريات المحطمة". تذكر هذه الاجسام إلى حد ما بأعمال النحات الأميركي جون شامبرلين، الذي قام منذ الستينات بإنتاج سلسلة من التجهيزات تتكون من سيارات محطمة قام بضغطها لتصبح منحوتات تعبيرية. 


تبدو أجسام رشماوي أشبه بحقائب السفر، ما يحيل إلى موجات الهجرة الجماعية التي حصلت بعد الانفجار، علماً أن الذين هاجروا إلى الخارج لا بد حملوا اللحظة القاسية معهم أينما ذهبوا. يمكن رؤية هذه الأجسام كتكثيف لحظة مضطربة من تاريخ المدينة التي دُمّرت بفعل ضغط الانفجار، والتي يعيش سكانها ضغوطاً كبيرة اليوم بفعل الصدمة المستمرة والضياع حيال المستقبل. لكن وفق رشماوي "الإنفجار حصل قبل 4 آب بكثير، ونحن توقعناه دائماً"، لذلك ليس بالضرورة ان نرى هذه الأجسام – الحقائب كتجسيد لحظة واحدة، بل كمسار طويل نعيشه منذ التسعينات حتى اليوم.

تضم سلسلة "غاليري" أيضاً أعمالاً أخرى، تتألف من إطارات النوافذ الألمنيوم التي نظمها رشماوي من الأكبر إلى الأصغر، ثمّ ثبّتها في ألواح خشبية وأعاد تركيبها على شكل أجسام محمولة ومعلقة في الهواء. يبدو هنا فعل التنظيم مواجهاً لفعل الضغط، حيث تبقى الأجسام أقرب إلى الشكل الاساسي الذي كانت عليه (حتى المعادن، ورغم قسوة الضغط الذي تتعرض له، تبقى تركيبتها الكيميائية بلا تغيير)، لكن قابلية بعضها على الحركة والتأثر بما يأتي من الخارج، يعيدنا إلى مفهوم الضغط، وهو ما نجده مع تلك المعلقة التي تموج باستمرار بفعل ضغط الهواء المتحرك في فضاء الغاليري. 

يبقى الخاص في هذه السلسلة، أنها تأتي كردّ فعل على حدث مباشر، وهو أسلوب عمل ربما لا نجده كثيراً عند رشماوي الذي اعتاد أن ينتج فنه بشكل أكثر منهجية، وبعد القيام بأبحاث حول الموضوعات التي تتناولها. لكن في كل حال، لا تنفصل هذه الأعمال من ناحية سياق الإنتاج والمواد المستعملة، عن مسار طويل من الفن البنائي والبروتالي الذي اشتهر فيه رشماوي خلال العقدين الماضيين.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024