مسرح لبنان: الاحتفال بالماضي فقط

روجيه عوطة

الأربعاء 2018/12/05
في كل مرة، يحتفل لبنان بمسرحه، كما يفعل في هذه الأيام مع الدورة الأولى من "المهرجان الوطني للمسرح"، يبدو أنه يحتفل بالفن الأكثر رسوخاً فيه. وربما، بيانه على هذا المنوال، يتعلق بكون الفن إياه أكبر سناً منه، أو بالأحرى أعتق من نشأته الرسمية. فيعود المسرح في ظهوره الابتدائي إلى النصف الثاني من القرن التاسع العشر، ومنذ ذلك الحين، لا تزال أعماله تتراكم سنة بعد أخرى، وعقداً بعد آخر، وقرناً بعد آخر أيضاً، ما جعله يتسم بذاكرة، تسجل تحولاته التي تؤلف تاريخه الغني.

إلا أن رسوخ المسرح لا يعود إلى تجذره التاريخي فحسب، بل إلى أنه استطاع أن يمد صلة مع جمهوره، وفي الوقت نفسه، يحافظ على تغيرها من مرحلة إلى ثانية. فمرة يريد أن يكون تثقيفياً، ومرة ترفيهياً، ومرة تراجيدياً، ومرة كوميدياً. مرة يرحب بالغناء فيه، ومرة يطرد لحنه ليحتفظ بالشعر، مرة يعتمد تفخيم اللغة، ومرة اللسان المحكي. وفي هذا السياق أيضاً، عرف المسرح كيف يتعامل مع سواه من أطرزة الأدب، فقد دعا شعراء كثر إليه، كمؤلفين أو كمترجمي نصوص أجنبية له، رغم افتقاره على الدوام إلى كتابته، التي اقتصرت مزاولتها على عدد قليل من فنانيه، وقد كانت مزاولة غير وطيدة.

لكن حكاية المسرح في لبنان هي أيضاً حكاية مهاجريه، الذي نقلوا له تجارب حديثة. وهم، عندما كانوا ينتقلون لتحصيل دراساته في البلدان الأوروبية والأميركية والسوفياتية، كانوا يرجعون إلى موطنهم الأول، وفي ظنهم أنهم سيندرجون في مطاف ذلك الفن مباشرة، وعندها يقدمون له ما تعلموه. هذا، ما يبينه مثلاً تنوع الاتجاهات في المسرح اللبناني، بالإضافة إلى الصراعات داخل مجاله، تماماً كما جرى بين منير الدبس وأنطوان ملتقى مثلاً. وقد لا يكون تنوع تلك الاتجاهات سببها صراع حول دور المسرح، بل مردّها انه لم يتركز في مكان دون غيره. بعبارة واحدة، لم يستقر في العاصمة ويثبت فيها، بل كان عابرا لمناطق البلد، كما أن بعض حركاته أو تياراته ولدت بعيداً من بيروت. لقد كان المسرح حياً، وحين أسس رواد تحديثه، معهده الجامعي، كانوا يحسبون أن هذه المؤسسة ستزيده متانة. وهذا ما فعلته. ليس لأنها صادقت عليه رسمياً، بل لأنها لاحقاً ستنتج القليل من الانفصال عنها، الانفصال الذي سيستكمل تاريخ مسرحها ذاته.

لكن الناظر إلى حالة المسرح راهناً في لبنان، يلاحظ أنه متجمد، وأنه يستمد قيمته من رسوخه، ومن تاريخه، وليس من حاضره وحيويته. من المتاح قراءة ذلك التجمد بالإنطلاق من التاريخ هذا، بالإنطلاق من أحد جوانبه، وهو فقدان المسرح لوسائط حليفة له، ليس الكتاب بوصفه نصاً مسرحياً فحسب، بل الإذاعة أيضاً. فالمسرح كان حليف الإذاعة، وحتى عندما كان وسيلة لبناء كيان البلد وصورته الرحبانية، لم يكن فعالاً من دونها. لاحقا، خسر المسرح إذاعته، وأتى التلفزيون، فانتشر وطغى، همّش السرح وأبعده. هكذا، صار المسرح بلا حليف، بل بدأ يحاول تقليد التلفزيون، كما أن كثرة من شغيلته راحوا يتنقلون بينه وبين استديوهات الشاشة الصغيرة ومسلسلاتها. ونتيجة تنقلهم، بدأ تأليفهم وتمثيلهم يتآكل، الأمر الذي جعل بعضهم يتمسك بشخصيته المسرحية ويصبّرها أو يعتصم بها: فادي ابي سمرا مثلاً، هو هو أينما كان، على الخشبة، في الفيلم، في المسلسل. طبعاً، يساعدهم في ذلك أن النصوص والسيناريوهات صارت تتشابه، وأحياناً تتطابق، فلا داعي لتغيير الشخصية ما دام في مقدورها أن تكون على طلعتها نفسها من مجموع مشهدي يدعى مسرحية إلى آخر يدعى عملاً تلفزيونياً.

أدى لحاق المسرح  بالوسائط إلى دوارنه على نفسه، وإلى محاولته التطبع بها، من دون أن يجهد في التوازن معها، أو في مساءلتها. فسكنته بغية أن يكون شاشة، حتى لو لم يحضر شخصيات على خشبته، وحتى لو حضرت هذه الشخصيات بكثافة. في الحالتين، بدا أنه يسعى إلى استئناف مرئية سابقة، أو إلى الاستحواذ على أخرى لا يمكنه أن يحظى بها. فكل تاريخ المسرح، هو أيضاً تاريخ السؤال في تشكيل المرئيات، بحيث أنه فضاء للبحث في تركيبها، وفي أثرها في جمهوره، وليس فضاء لاستعارتها من غيره مع ما تحتمه هذه الاستعارة من سقوط في ابتذال الكلام وشطط التمثيل. لكن للأسف، هذه الإشكالية وغيرها لا تجد مكانها في أي حراك مسرحي حالياً، بل غالباً ما يجري اختزالها، وبطريقة سطحية، بعلاقة التقنيات الحديثة بالمسرح. وطبعا، على عادة مدرسية راسخة، تتوزع الآراء بين مع وضد هذه العلاقة!

بعد ذلك، بعد جمود المسرح على انكساره، وبعد عدم درايته بحاضره، لا يعود أمام أي مهرجان من مهرجاناته سوى الرجوع إلى ماضيه، وإلى فنان من فنانيه، يلخص حكايته، من ترجمة كافكا إلى دور كاريكاتوري في فيلم سيلينا: أنطوان كرباج. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024