معرض جديد لبهجوري.. وجوه مُتعبة وونس

هشام أصلان

الجمعة 2018/12/28
 
كثيرون من أبناء الحياة الثقافية المصرية، وعبر أغلب أجيالها المعاصرة، لديهم بورتريه شخصي رسمه الفنان جورج البهجوري. فهو أينما وُجد وسط جمع، تجده جالسًا وعدد منهم يلتف حوله، بينما يخرج الورقة وبخطوط سريعة يعطيك رسمة جميلة كاريكاتورية لوجهك. جميع من يرى سيعرف أن الرسمة لبهجوري من دون أن يقرأ توقيعًا.

وعلى هذه الغزارة وسهولة الإنتاج والاقتناء، يجلس بهجوري على مقعد شديد الخصوصية بين مقاعد القمة في مجال الفن التشكيلي المصري، بما يستطيعه من حلّ سهل ممتنع للمعادلة الصعبة بين القيمة والرواج، مرورًا بطبيعة روحه وتركيبته الشخصية التي من الصعب النظر إلى أعماله منفصلة عنهما، وكأنهما كانا ضرورة كعناصر ساعدته في الوصول إلى ما يبدو أنه أبسط لغة ممكنة لمخاطبة المتلقي.

الأحد الماضي كان افتتاح معرضه الجديد في غاليري "بيكاسو" في القاهرة. مجموعة كبيرة من اللوحات الجديدة، لا تبتعد أبدًا عن كونها امتداداً طبيعياً لمشواره الطويل في التماهي مع الذين يعيشون ويموتون على هامش الدنيا، وإن كان تصويرهم سيأتي أحيانًا عبر نقطة أَلقّ.
أنت، مثلًا، لن تستطيع أن تقف أمام لوحة لأم كلثوم من دون أن تتأمل في وجوه أعضاء الفرقة الموسيقية وراءها، تلك الوجوه التي يصلح كل منها للوحة منفصلة، ويبدو على كل من أصحابها إدراكه بأن طريقه انتهى عند هذا المقعد الذي تحول، بالجلوس الأبدي عليه، إلى محض رقم لا يطمح الى أكثر من أجر الحفل.

اللوحة الكبيرة لأم كلثوم وفرقتها ليست الأولى لجورج بهجوري. رسمها كثيرًا، بينها مرّات ساخرة، كأن يرسم نفسه نائمًا في إحدى حفلاتها سخرية من تكرارها مقاطع الأغنية، وعندما عاتبته ثومة قال إنها لو تعلم عدد اللوحات التي رسمها لها ستعرف كم يحبها.
وكأعضاء فرقة أم كلثوم، ستسرح مُرغمًا في وجوه جماهير مباراة كرة القدم ولغة أجسادهم ربما أكثر مما ستتأمل اللاعبين. ذلك على رغم وضع هؤلاء الجماهير في شريط مستطيل يميل إلى الضيق ويدور حول أرض الملعب الواسعة التي اختار أن تكون صفراء.


وفضلًا عن تركيز بهجوري على تلميع وتأطير الهامش والبسيط، أنت أيضًا أمام معنى يتجلى لأهمية الجماعة والونس، ومعاناة يتدفأ أصحابها في بعضهم البعض، فيما تحتار بين إن كانت هذه حالة استدعاء الفنان لأيام أكثر بساطة، وبين أن هذا فنان ليس مأخوذًا براهن اللحظة المشحونة، فنيًا، بتأصيل كوننا أفراداً في مواجهات مُنفصلة مع عالم يطرح علينا أسئلة جديدة للفن على اختلاف مجالاته، وإن بدا، ظاهريًا، أننا نعيش جيرانًا قريبين عبر شاشات الـ"سمارت فون".

وبهجوري من التشكيليين المصريين القليلين الذين عُرفوا عالميًا بشكل معقول. درس الفن في مدرسة الفنون الجميلة في مرسم يانكيل في فرنسا، وعمل رسامًا للكاريكاتير في عدد مجلتي روز اليوسف وصباح الخير أيام عزهما، وأقام عشرات المعارض في كثير من دول العالم، وله عدد من المؤلفات في علاقته بالفن والسفر، منها: "أيقونة فلتس" و"بهجر في المهجر" و"من بهجورة إلى باريس" و"الرسوم الممنوعة".

غير أنه، أيضًا، من الفنانين الذين يضعون الواحد في منطقة من الحيرة وعدم الفهم، وإعادة التفكير في الانعكاس الحقيقي لعلاقة الفنان بالسلطة، أو حتى رؤيته لها، على علاقته بفنه. ذلك أن ذلك الفنان المشغول، صادقًا، بهذه الوجوه المُتعبة على طول حياته الفنية، هو نفسه الذي يتحدث في السياسة بارتياح كبير مُعبرًا عن تقدير بالغ للرئيس السيسي، قولًا ورسمًا، مؤكدًا في أكثر من حديث صحافي أنه يراه عبد الناصر عصره، وهو تقدير كان الواحد يفهمه من فنانين وأدباء كُثر لطالما وقفوا في الجهة المقابلة للسلطة بسبب ما وصل به حكم الإخوان من تعلُق بأي قشة في عرض البحر، لكن هذه الرؤية بدا واضحًا أنها انسحبت كثيرًا بعد أكثر من أربع سنوات رأى فيها المصريون ما لم يروه قبلًا من شقاء يرسمه بهجوري، بشكل ما، كما يرسم، بمحبة بالغة، رئيس الجمهورية في أكثر أيام البسطاء صعوبة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024