سينتيا فلوري ومهانة الشعب وفضيلة الشجاعة الغائبة

أحمد جابر

الأحد 2019/05/05
"نهاية الشجاعة"، نص مليء كتبته سينتيا فلوري، جمع بين الفلسفة واللغة الأدبية الأنيقة التي تحمل القارئ على الإحساس بغبطة المعنى، وعلى بذل الجهد لاستمرار الإمساك بالخط الواصل بين فكرة الكاتب وبين فضاء قصدها الذي تنيره إنسيابية دفَّاقة من تدافع المفردات.

عند الكاتبة، "نهاية الشجاعة" ذات مبتغى واضح، والهدف محدد منذ البداية، "فالنهاية" دعوة إلى الإقدام من "أجل استعادة فضيلة ديمقراطية"، يمكن معها إعادة تعريف الإنسان المعاصر، هذا الذي ربط جورجيو أغامبين تحديده، بمدى قدرته على أن يكون شجاعاً، شجاعة جعلتها الكاتبة نوراً للقلب، ثم سارت بها درساً وتحليلاً ومعاينة، من عناصر تعريفها إلى مطارح تجلياتها.


سؤالان قادا بحث سينتيا فلوري، الأول، هو ذاك الذي وضع نصب جهده إعادة صوغ نظرية خلقية للشجاعة، من دون استسلام أو تبرير، والثاني، هو ذاك المتعلق بكيفية الانتقال من نظرية خلقية إلى نظرية سياسية للشجاعة.

بداية الانطلاق في البحث، هي تأكيد كون الشجاعة فضيلة بذاتها، واعتبار المثابرة واحدة من أهم علاماتها، وهي مثابرة يظل فيها الإنسان الشجاع مناضلاً ضد الاستياء، محتفظاً بميزة الابتهاج، وبالقدرة على إحداث القطيعة ورفض التخفي، وعلى الإقدام على الاعتراف وعلى هدم التزييف.

تختصر الكاتبة الإنسان الشجاع لتجعله بإيجازٍ مكثَّف، ذاتاً تقول الحقيقة، الحقيقة العارية التي عبَّر عنها ميشال فوكو بكلمة الباريزيا، وكلمة الحقيقة ليست مهنة، بل هي موقف وطريقة، وإقدام شجاع يهيئ السبيل أمام عبور الحقيقة، ومنع اقتحام الفضاء العمومي من قبل الذين بلا معتقد سياسي، والذين تشكل "العملة" رابطهم الوحيد بالسياسة. ربما كان ذلك قدر الإنسان المعاصر، ولنقل الإنسان الحالي أيضاً، هذا إذا أردنا البقاء على جادة القصدية التي حملها الكتاب، أي هدف استعادة فضيلة الديمقراطية.

معاصرة الإنسان الحالي، ومعنى أن يكون شجاعاً، تجعله مواظباً على رؤية الضوء داخل الظلمة، ظلمة العصر التي يراها الشجاع ولا يحيد عنها، بمثابرة لكن ليس من دون خوف، فالخوف حكمة الشجاعة أيضاً، هذه التي فحصها أرسطو فميَّز بين الشجاعة الحقيقية والشجاعة المغلوطة، إذ إنه هناك مخاوف غير مبررة موجودة، وإلى جانبها هناك أنواع من الشجاعة غير الجديرة التي يكون مصدرها عدم الاكتراث أو المزاجية. في هذا المجال، يكون الأصوب مسلك ممارسة الشجاعة من دون إفراط، وفهم الشيء الذي يكبح الشجاعة، وتعلم كيف نحسب ثمن غيابها، ففي هذا الغياب تهديد للفضائل الأخرى التي تشكل فضيلة الشجاعة واسطة عقدها.

تنقل سينتيا فلوري الشجاعة من عنوان فرعي إلى عنوان آخر، لتعيد ربط تسلسلها بكليّة مختصرة تدق باب الشجاعة السياسية، هكذا يتدرج البحث من النظري إلى العملي، ومن سؤال المفهوم إلى سؤال ما العمل في نهاية المطاف. على درب الشرح التفصيلي، أو تفكيك مصطلح الشجاعة لإعادة بناء نظرية حول الشجاعة، يعبر إنسان الفعل الشجاع من محنة الشجاعة إلى كيفية اغتنام الفرصة السانحة، ومن فن الإرادة الشجاع إلى مقاومة الهمجية والعبث وتزوير الاعتراف، ولا يتوانى ذات الإنسان عن خوض تجربة الإنكار، وهو لا يتردد في اختيار خصوبة المخاطرة، ويظل محتفظاً دائماً بإرادة الابتهاج، هذا لكي تظل الشجاعة، كما سلف، نوراً للقلب، ويظل الإنسان الشجاع جديراً بالانتماء إلى عصره، من مدخل شجاعته، ومن سبل الإقدام على التصدي للمواضيع التي تواجه هذه الشجاعة، على الصعد الأخلاقية والفكرية والاجتماعية والسياسية.


من سياسة الأخلاق إلى سياسة الشجاعة، تطرح الكاتبة السؤال عن نهاية الشجاعة السياسية، فهل هي النهاية حقاً؟ ترى سينتيا فلوري أن انتساب الأمراء الحالين إلى الشجاعة هو انتساب تهريج، لذلك يصير السؤال التالي المطروح من قبلها هو: كيف يمكن إعادة تأسيس نظرية سياسية للشجاعة لا تكون في الحقيقة غير استغلال شعبوي لها؟ تحضر الإشارة هنا إلى أن الشجاعة تكون بوجهين، فهي سياسية وخلقية، ومع هذه الإشارة تبرز حقيقة غياب الفضيلة التي كانت مؤسسة للجمهورية، ودعامة أخلاقية للفعل السياسي، وجانباً مشعاً لروح الشعب، منذ جان جاك روسو، وروبسبير ومونتسكيو... أي أولئك الذين شكلوا المشهد الأول من الديمقراطية في فرنسا الجديدة. هذه الفضيلة المؤسسة التي رآها روسو وسواه في قلب النظام الجمهوري، أزاحها توكفيل الذي فضَّل الحديث عن "المصلحة المفروغ منها"... فهذه تتلاءم مع نقاط ضعف الناس، وتقع في متناول أصناف الذكاء كلها. عقيدة المصلحة غير قادرة على صنع إنسان فاضل، لكن بإمكانها أن تشكل عدداً من المواطنين القنوعين والمعتدلين والمحترسين. وفقاً لهذا المسار الذي اقترحه توكفيل، تصير الفضيلة عدواً للأنظمة، حتى ولو كانت مقاصدها حسنة. عندما تحل المصلحة المفروغ منها محل الفضيلة، تبرز مسألة تزوير الشجاعة، بحيث نكون مثلاً أمام رئيس دولة يمارس المسرحية السياسية، وبدل أن يكون شجاعاً ينجز الشيء نفسه دوماً وأكثر، فنصير أمام ديمقراطيات الفرجة، وأمام دوائر فساد سلبية تنشئ أنظمة من المقبولية يصعب كثيراً حلها لاحقاً.


التزوير على مستوى النسق الرسمي لا يعفي الشعب من مسؤوليته عن التزوير، لذلك تطرح الكاتبة السؤال في صيغته الآتية: هل هي نهاية الشعب وخزي النخب؟ واستطراداً، أو في الإجابة عن السؤال، تتم الإشارة إلى أن المجتمعات منظمة من طبقتين متعارضتين لهما رغبتان متناقضتان، فالكبار يرغبون في قمع الشعب، والشعب لا يريد أن يُقمع، وقصد الشعب هو الأكثر استقامة من قصد الكبار. في هذا المجال أحال الكبار أمر معارضة الشعب إلى النخب، هذه التي يثور خزيها عنيفاً بمصادقته على قتل التوافق الاجتماعي، ويمثل "الابتزاز" فعلها المشترك وشأنها العام. لكن أين هي عامة الشعب؟ ترى الكاتبة أن العصر ليس في مصلحتها، فقد عاد الإفقار ليخيم في ركاب العولمة، وبرزت المهانة الاقتصادية كمفهوم يجب دمجه ضمن أسس النظام العمومي والإجتماعي. هل تدل نهاية الشجاعة على نهاية الشعب؟ بالتأكيد تجيب الكاتبة، وتضيف أنه إذا كانت المهانة الوطنية تؤذن بموت الأمة، فإن مهانة الشجاعة تؤكد اختفاءها.

على وجوه شتى، كتاب نهاية الشجاعة يخاطب أوضاعنا اللبنانية والعربية، فيؤكد المهانات التي ارتدَّت إليها مجتمعاتنا، والخزي الذي تقبعُ فيه نخبنا، والخوف من القطيعة مع الخوف الذي تخضع له شعوبنا.

لقد كان صوت فيكتور هوغو صادقاً وشجاعاً عن ما اعتبره الفضيلة ومصالح الناس... نادرون "الهوغوليون" العرب الذين يذهبون بأصواتهم إلى ما بعد المسرح، وإلى ما فوق أصداء التصفيق.


(*) "نهاية الشجاعة: من أجل استعادة فضيلة ديمقراطية" (La Fin du Courage) لـ سينتيا فلوري، ترجمه عبد النبي كوارةعن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" (194 صفحة موثقًا ومفهرسًا)
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024