"المدرسة الوطنية" لبطرس البستاني .."هزيمة" العلمانية المبكرة

محمد حجيري

الأحد 2019/05/05
من المستغرب في الاحتفال بـ"المعلم" بطرس البستاني، أن بعض من يمجدون أفكاره وطروحاته، يعملون في الواقع نقيض ما يقولونه، فعدا عن دورهم البارز في الحرب الأهلية، لهم دورهم الأكثر شراسة في زيادة الشقاق الاجتماعي والمذهبي، تحت مسميات مختلفة، بمعنى آخر، شتان ما بين بطرس البستاني الوطني وعمليانيته وعلمانيته ولبنانيته ومشرقيته، وبين بعض المحتفين به، من المذهبيين الغارقين في العصبيات بوقاحة نوعية...


وعدا بدايات البستاني البروتستانتية، وتسليطه الضوء على قضية أسعد الشدياق، برز في مسيرته تأسيس "المدرسة الوطنية" التي، توصف بـ"أول مدرسة علمانية مشرقية تعددية"، الهدف الأساس من تأسيسها التغلب على ما أفرزته حرب 1860 من ندوب ورواسب وما فجرته من ضغائن قبلية، وبإزاء هذا شرع البستاني في "تسطير الورقة بالقلم مرة أخرى، بينما انشغل الدروز والموارنة بتبادل الاتّهامات المرة بشأن الصراع في جبل لبنان، في حين بقي المسيحيون في دمشق هلعين من المسلمين الذين واجهوا بدورهم في الشهور الأخيرة من عام 1860 العقاب العنيف لامبراطورية عثمانية محرجة ومربكة"(مدفعيّة السماء - أسامة مقدسي).

بينما كان القناصلة الغربيون والمبشرون يمنّون أنفسهم معتقدين أن الأحداث تبشّر "بنزعات النمر المسلم الجبّار الأخيرة (العثماني)"، عجل العثمانيون في إرسال جيش جديد الى سوريا، وقد شهد ارهاب الدولة اللاحق اعدام العشرات من مثيري الفتن المزعومين من المسلمين في دمشق، بعد تحقيقات آلية متعجلة، علاوة على تحييد جبل لبنان وتهدئته بالكامل، وقد حكم على جلّ زعمائه الدروز بالموت، كما "جُرّدت عائلاته المعروفة من مزاياها القديمة في جمع الضرائب والاعفاءات"، وبعد أن أقنعوا أنفسهم ونظراءهم الاوروبيين بأن العنف في جبل لبنان كان انفجاراً لتعصب عشائري "موغل في القدم". وأخيرا صرح العثمانيون عام 1861 بأن "جميع ذيول الاحداث المتأخرة وآثارها قد اجتثت، وإلى الابد".
بيد أن البستاني بحسب مقدسي أدرك من حطام عالمه اللبناني زيف هذا الزعم. فمن المستحيل تبخر المخاوف والبشاعات الطائفية بمجرد بيان امبراطوري. لذلك قام بتحديد أساس علماني مساواتي جديد للتعايش. وعلى رغم تأرجحه آنذاك بين التابعية العثمانية والوطنية السورية يقول في الوطنية الرابعة "نفير سورية"، العدد 4، بيروت 25/10/1860: "فسورية المشهورة ببلاد الشام وعربستان هي وطننا على اختلاف سهولها ووعورها وسواحلها وجبالها، وسكان سورية على اختلاف مذاهبهم وهيئاتهم وأجناسهم وتشعباتهم هم أبناء وطننا". ويعطي لهذه العلاقة بين الفرد والوطن معنى حقوقياً، فيقول: "يا أبناء الوطن، لأهل الوطن حقوق على وطنهم، كما أنّ للوطن واجبات على أهله...". (وجيه كوثراني، المواطنة والانتماء، جريدة الحياة، العدد 14196، 30-01-2002).

عندما شرع البستاني في مهمته التمدينية عام 1863، في انشاء مدرسته في حي زقاق البلاط (سوقاق بالتركيّة)، كان المشرق العربي يغط في ظلام رهيب، فالسكان الذين طحنهم الاستبداد كما وصفهم المستشرق الروسي ز.ل. ليفين، كانوا اميين بالكامل تقريباً، وكانت معرفة القراءة والكتابة في الريف السوري، ظاهرة شبه معدومة. في هذا الواقع الثقافي المتخلف انبرى البستاني لتأسيس المدرسة الوطنية الاولى، فكانت كما يقول ليفين، حدثاً كبيراً في حياة سوريا الاجتماعية... وكان هدفه من مدرسته سعيا لـ"غرس قيم الوطنية المسكونية في جيل جديد" من الطلبة المجتذبين من خلفيات متنوعة: لاحترام الاختلافات الدينية بدون التطرق الى المسائل الطائفية، وجعل الوحدة الوطنية أساساً للحياة العصرية من خلال التعليم الصارم، وقد غطّى المنهاج العربي للمدرسة الداخلية، التي فاق عدد تلاميذها عدد أولئك في مدرسة مدرستي البعثة التبشيرية الاميركية في بيروت، المواد الادبية والعلمية، كما تعلم التلاميذ الانكليزية والفرنسية واليونانية واللاتينية والتركية. وتأكيداً على قطيعته مع فلسفة التبشير الاميركية القائمة في جزء منها على العنصرية والتفرقة، أصر البستاني على أن أساس التعليم القويم يرتكز على الإيمان الديني المعتدل، وليس المسيحية الانجيلية، في حد ذاتها. ولهذا،
حرص على تدريس التلاميذ من مختلف الأديان، مسلمين ودروزاً ومسيحيين من مختلف الطوائف، دياناتهم المعنية، كل على حدة. وشرّعت هذه المدرسة الوطنيّة أبوابها لجميع أبناء الوطن دون تمييز في الدين أو في المنطقة أو في الطبقة الاجتماعيّة. وجعل برنامجها التعليمي محاكياً للمدارس الأجنبيّة الراقية.

وكان لهذه المدرسة (عمدة) للإشراف عليها وتنظيم سير العمل فيها. وهذه العمدة كانت بمثابة ما نسميه اليوم (مجلس الأمناء) وهي مؤلفة من الأعيان والعلماء في زمانهم: سعيد شقير، إبراهيم الباحوط، سعد الله البستاني، عبد الله البستاني، شاهين سركيس، الشيخ خطّار الدحداح،  سليم البستاني، خليل ربيز، عبد الله شلبي، فضل الله غرزرزي، بطرس البستاني (رئيس العمدة)، والشيخ يُوسُف الأسير، وهذا الأخير كان المسلم الوحيد في هذه العمدة. وربما كان اختياره بسبب الرابطة العلميّة التي كانت تربطه بالمرسلين الأميركيين الذين كانوا يكلفونه بتصحيح العبارة العربيّة للعهد القديم (التوراة) نظراً لتفوقه في علوم اللغة العربيّة. ولقد حرص البستاني على ضمّ الأسير (المسلم) إلى عمدة مدرسته من أجل إضفاء الطابع الوطني عليها وإبعاد الصفة الطائفيّة عنها.


كرمت الدولة العثمانية البستاني على أعماله المتأخرة، وعلى مدرسته وعلى الموسوعة الضخمة التي بدأ كتابتها، وعلى قاموس عربي جديد مُهدى الى السلطان العثماني عبد العزيز، بيد أن هذا التقارب، لم يخفِ اختلافاً اساسياً استمر في فصل الدول الامبراطورية عن رعاياها الليبراليين، من أمثال البستاني... واذا كان البستاني اصلاحياً وطنياً ليبرالياً، فقد لاحظ أسامة مقدسي أن المفكر الاسلامي الاصلاحي محمد رشيد رضا، أصدر فتوى تمنع الطلاب، على وجه الدقة، من الالتحاق بالمدراس التبشيرية التي وصفها بالمدارس العلمانية، تبعد "الطلاب المسلمين والمسلمات عن الإسلام عبر وسائل شيطانية متنوعة"(فتاوى الامام محمد رشيد رضا - دار الفكر الجديد) وهذه الفتوى بحسب مقدسي محاكاة مضحكة وغير مفهومة على الاطلاق لتصورات المبشر روفوس اندرسون العرقية بشأن "تجريد السكان الاصليين من قوميتهم"، كما هي صدى لمنشور البطريرك الأصيل ضد المبشرين الاميركيين عام 1823. وبينما انشغل معظم الاصلاحيين في فترة الامبراطورية(العثمانية) المتأخرة بقضايا الحضارة والتخلف والاصلاح، دافع البستاني عن مشروع وطني ليبرالي، في وقت لم يتمكن "الاصلاحيون" المتدينون من مختلف الطوائف اللبناني الا من طرح مشاريع عنصرية تقوقعية، تثبت الفوارق الدينية، دفعت بهم الى افتتاح مدارس أبرشية لمنافسة مدارس المبشرين. واذ كانت المدرسة الوطنية امتازت بحرية التعليم والدين وكانت صبغتها أهليّة، أي وطنيّة حسب اصطلاح أهل ذلك الزمان، وأخرجت من صفوفها عدداً من حملة الأقلام في العالم العربي، إلا أن تكاثر المدارس الطائفيّة، من محليّة وأجنبيّة أضعف استقطابها للتلاميذ وأدى في النهاية إلى إغلاقها في سنة 1877(وقيل في 1871). وهي الآن مجرد فكرة مثالية ومبناها مجرد أطلال جدران شاهدة على زمن غابر وشخص فذ، يكتشف مكانها الاعلام من وقت إلى آخر...

وربما تكون نهاية "المدرسة الوطنية" المبكرة، الدرس الأكثر تعبيراً، عن "تعاضد" الطوائف اللبنانية وتوحشها وهي المتأمرة السائرة بعقلية القرون الوسطى في منع حضور العلمانية وتمددها. وكتب الباحث كرم الحلو في مقال نشر عام 2013  ان "المشروع التنويري الذي قاده هذا الرائد النهضوي اواسط القرن التاسع عشر، وكانت المدرسة الوطنية العلمانية احد ابرز رموزه، اصيب بالاحباط والخذلان. الرابطة الوطنية القومية التي قامت عليها هذه المدرسة تقدمت عليها العصبيات الطائفية والقبلية والعشائرية(...) وعلى النقيض من شعار مدرسته "حب الوطن من الايمان" حلت مدارس وجامعات الطوائف والمذاهب..".

(*)عن مبنى المدرسة الذي ما زال قائما الى يومنا هذا، قالت قناة الميادين في عام 2015 أن الحكومة اللبنانية اشترت المبنى ولكنها تركته فريسة للإهمال، فيما قالت قناة (ال بي سي) في تقرير في عام 2017، ان المبنى تسكنه أربع عائلات وتدفع الإيجارات لشخص من آل الفرّا.
   
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024