علي بدر... عن كتاب "الخروج من الفوضى" لجيل كيبل

المدن - ثقافة

الثلاثاء 2020/07/07
  

لا يصدر هذه المرة، من أناقته الباردة، ولا من جهله الملوكي، ولا من تعاليه على الضحايا وهي التهم التي أكالها له أوليفيه روا، احد أشهر أنثربولوجي الحركات الإسلامية المعاصرة، إنما من بانوراما مذهلة من التحليل المسهب والذي لا يخلو من الدراما الشخصية، والتركيز، بمرارة عاطفية على الوقائع الأكثر اضطراباً في الشرق الأوسط منذ العام 1973 إلى اليوم، والبحث الجاد والمنقب عن الآليات التي شكلت هذا الشبح المرعب "داعش" والأكثر وحشية في التاريخ السياسي للشرق الأوسط والذي ظهر كنتيجة مناقضة تماماً لمطالب الربيع العربي في: الديمقراطية وحقوق الإنسان. إنه "الخروج من الفوضى، الأزمات في المتوسط والشرق الأوسط" غاليمار 2018، مزود بخرائط فابريس بالونش. وهو الكتاب الأخير لعالم الإسلام المعروف جيل كيبل الذي ولد في باريس 1955، لأب مثقف من أصل تشيكي ترجم هاسلاف هافل ولأم من مدينة نيس كانت مدرسة للغة الانكليزية. هذا الكتاب يختلف عن جميع ما كتبه جيل كيبل على مدى أربعين عاماً: "النبي والفرعون" الذي صدر في العام 1984، وهو أول كتاب عن الجماعات الإسلامية المتطرفة في مصر، والذي يعد اليوم كتاباً كلاىسيكياً، ثم أصدر "ضواحي الإسلام" في العام 1987 وهي أول دراسة ميدانية لتطور الإسلام كظاهرة اجتماعية وسياسية في فرنسا. وقد انتقدته الدوائر اليسارية لتركيزه على التأثير المتزايد للإسلام السياسي في تلك المناطق وعن العلاقة بين الهوية والتأصيل. ثم أصدر "انتقام الله، المسيحيون واليهود والمسلمون استصلاح العالم 1991" وهي دراسة مقارنة للحركات السياسية والدينية المنبثقة عن اليهودية والإسلام والمسيحية. في العام 1994 أصدر كتابه "إلى الغرب من الله" وهو تحليل دقيق لقضية سلمان رشدي، وقضية حجاب كريل. ثم أصدر كتابه المعروف على نطاق واسع "الجهاد، توسع وانحدار الإسلام السياسي" في العام 2000، وهو دراسة في تطور الإسلام السياسي، حيث عدَّ تطرفه علامة على انحداره وليس صعوده، فلم تعد لديه قوة التعبئة لحشد الناس إلى اليوتوبيا المزعومة. ثم "وقائع حرب الشرق" 2002 عن رحلته إلى مصر وتسجيل وقائع الحياة واللقاءات مع المثقفين على وقع أحداث سبتمبر. بعدها أصدر "الفتنة، الحرب في قلب الإسلام" في العام 2004 والذي يعد فيه الإسلام السياسي كحرب أهلية في قلب الإسلام ذاته. في العام 2008 أصدر "الإرهاب والشهادة. مواجهة تحدي الحضارة" وهو تحليل مسهب لتنظيم القاعدة في نصوص الأيديولوجيين الجهاديين مثل عبد الله عزام وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأبو مصعب الزرقاوي، أما كتابه "ضاحية الجمهورية" فهو عن المجتمع والسياسة والدين في كليشي سو بوا، ومونتفيرميل، وقد صدر في العام 2012، ثم جاء "شغف عربي" في العام 2013 وهي شهادات من مصر، تونس، اليمن، سوريا، ليبيا، فلسطين، ولبنان وهى مجموعة من الدول التى زارها كيبل بهدف الكتابة المباشرة من مواقع الأحداث. وأعد هذا الكتاب نقطة تحول في توجهات كيبل الانثربولوجية فقد عزز بحثه العلمي بالحكايات الذاتية واللغة الأدبية، وعلل هذا منهجياً بأن المعادلات العلمية قيدت العلوم الاجتماعية وجعلتها منغلقة في لغة غامضة أدت إلى انحسارها. بعدها أصدر على الطريقة ذاتها "شغف فرنسي أصوات المدن" في العام 2014، و"شغف قبائلي" في العام ذاته. في العام 2015 صدر كتابه: من هي داعش؟ مع إدغار موران، ريجيس دوبريه، ميشيل أونفراي، أوليفييه ويبر، جان كريستوف روفين، والطاهر بن جلون، ثم أعقبه في نفس العام "الرعب في فرنسا، سفر تكوين الجهاد الفرنسي" مع أنطوان جاردين.

جيل كيبل المنشق والملعون ما من كتاب يصدره إلا ومعه ضجة مذهلة وصادمة، فكل مؤلف من مؤلفاته هو مناسبة هائلة لنقاش شرس ومحموم بين الخبراء أو المثقفين، أو الأكاديميين المختصين سواء في الصحافة السياسية، التي صارت معنية بشكل صارم في موضوع الإسلام والحركات الجهادية، أو في أكاديميات العلوم الإنسانية، أو مع أنتروبولوجيات الإسلام المعاصرة سواء أكانت في فرنسا أم في العالم. فقد شكلت كتاباته الإشكالية في تحليلها ودوافعها محل جدل واسع واضطراب كبير في هذا المجال الخصب من جهة والحساس من جهة أخرى. فأطروحته عن أصل الإسلام السياسي هي محل شقاق دائم بينه وبين طائفة كبيرة من الكتاب الذي يعدهم جيل كيبل يهيمنون على الدرس الأكاديمي الخاص بمجال الإسلام والشرق الأوسط، فقد كان العام 1979، عام الثورة الإسلامية في إيران، عاماً فاصلاً في تناول ظاهرة الإسلام السياسي في الغرب وتقييمها، ولا سيما بعد زيارة ميشيل فوكو الشهيرة لإيران، وتأويله حدث الثورة الإيرانية بوصفه نوعاً من الروحانية الثورية التي يعيدها الإسلام للعالم بعد الموت النيتشوي للإله في الغرب، وهي المقالات التي نشرها تباعاً في العام 1978 في الصحيفة الايطالية، كوريرا دي سيرا، وفي اللوموند، وفي النوفيل أوبزرفاتير، وقد أجملها بهروزي غماري تبريزي في كتابه "فوكو في إيران، الثورة بعد التنوير"، الصادر في العام 2016، عن دار منيسن ينوفرستي برس، بشكل رائع وبتفصيلات مثيرة للاهتمام حقاً. صحيح أن موقف ميشيل فوكو تعرض لهجوم كاسح وتجريح عنيف من قبل النخبة المثقفة الفرنسية وهو ما أدخله في مرحلة صمت كامل حتى وفاته، كما وضح ذلك ديديه إريبون، في كتابه "سيرة ميشيل فوكو" (فلاماريون 1992)، حيث قدم أكثر التفاصيل دقة وتوازناً بخصوص النقاشات الدائرة حول فوكو والإسلام، لكن رؤية فوكو في الثورة الإيرانية كتمرد شعبي يقوده الإسلام الثوري بصيغته الإمامية على العلمانية الغربية، وعلى التحديث الغربي التي تبنتها أسرة بهلوي، أسس في الدراسات الإسلامية اتجاهاً واضحاً، سيظهر بشكل بارز في الثمانينات من القرن الماضي، وهو اتجاه يسم حركات الإسلام السياسي بالتمرد على الحداثة الغربية وتأسيس طريق خاص بحداثة تستمد شرعيتها من أصالتها. كان فوكو قد أبرز على نحو واضح أن الثورة الإيرانية هي قطيعة تاريخية مع الحداثة الغربية ذات النظام الصارم في المراقبة والممارسات الانضباطية، وابتداع شكل جديد من المسيرة التاريخية الذي سيكون له تأثيراً بالغاً على جميع مدن وعواصم الشرق الأوسط، بل والعالم بأسره أيضاً. هذا الاتجاه سنشهد قوته وهيمنته بدءاً من ثمانيات القرن الماضي، وهو اتجاه بارز يعزو التطرف لا للإسلام، كدين أو ثقافة أو تاريخ، إنما للسلوك الغربي وسياساته الاستعمارية المراوغة في الشرق الأوسط. وبالرغم من أن جيل كيبل ينتمي عمرياً إلى هذا الجيل نفسه، إلا أن كتاباته جاءت على نحو مخالف وصارم لهذا الاتجاه، وهو أمر فاصل في الدرس الانثربولوجي الخاص بالإسلام وانشقاق واضح، يؤسس خطاً خاصاً به. ففرانسوا بورغا François Borgua المولود في العام 1949، يهاجم أطروحة جيل كيبل التي يعزو فيها التطرف إلى النصوص الإسلامية بعنف، ويركز في كتاباته على أن الإسلام السياسي هو رؤية حداثية معتدلة مؤسسة على أساس روحاني تنتشر في الحواضر السنية، في المغرب العربي ومصر وسوريا، مشدداً على أن "الغرب" هو أساس صعود الحركات الإسلامية المتشددة، بسبب الماضي الاستعماري والعنصرية والتمييز العرقي، ويولي التدخل العسكري السبب الرئيس للرفض الإسلامي ودفع الشباب المهمش إلى خيارات انتحارية تستند إلى شرعية إسلامية. لا ينكر جيل كيبل هذه الأسباب الثانوية لكنه يذهب إلى الخطاب الإسلامي ذاته، وللتاريخ الإسلامي بوصفه حيزاً مهماً لإنتاج هذا الخطاب الذي يشرعن ويدفع معتنقيه إلى ضراوة متطرفة في تدمير دولة المؤسسات وتأسيس دولة الشريعة. فجيل كيبل لا ينكر الأدوار السلبية التي يلعبها الغرب، في الوقت ذاته لا يمكن قبول التفسير الأحادي الذي لا يأخذ بعين الاعتبار منطوق القول الإسلاموي نفسه ولا يفرد حيزاً مهماً للخطاب الذي يتبناه إرهابيون بمحض إرادتهم. لا يتوقف فرانسوا بورغا عند هذا الحد، إنما يؤسس لفرضية قائمة على أن حداثة المجتمعات الإسلامية لن تصاغ إلا بخطاب إسلامي، وإن هذه الحركات هي حركات حداثية أصلية، ولا سيما في كتابه "تحديث الاسلام، الدين في الفضاء العام في أوربا والشرق الأوسط"، صدر عن جون اسبسيتو 2002، فهو يذهب إلى مديات قصية في ربط اعتباطي بين الإسلام كدين والإسلام كثقافة وطريقة حياة ونظر للعالم والتاريخ، وإذا أردنا تأصيل هذا التيار فلن نبتعد كثيراً في نسبه لميشيل فوكو، والذي أدى إلى نشأة تيار قائم داخل الانتلجنسيا والحلقات الأكاديمية الفرنسية منذ العام 1979، أطلق عليه جليبر الأشقر بالاستشراق المعكوس L'orientalisme à rebours في مقالته المنشورة في مجلة Mouvment العدد 24، والتي أجمل فيها هذه الصراعات والانشقاقات في النظر إلى الإسلام ودوره في الحياة السياسية المعاصرة، ولكن فاته ردها إلى ميشيل فوكو.

في الواقع إن إطروحة فرانسوا بورغا ليست منفصلة عن بنية قوية ومدعمة في الأكاديميات الفرنسية، فقد قادها عالم الاجتماع الفرنسي أوليفيه كاريه Olivier Carré، ولد في باريس في العام 1935، ولا سيما في كتابيه "الإسلام والدولة في المجتمعات المعاصرة" صدر في العام 1982، و"الإخوان المسلمون في سوريا ومصر"، أصدره مع ميشيل سورا عن دار لارمتان في العام 1983، ويعد كاريه النزعة الإسلامية بأنها تحديث أصيل داخل المجتمعات الإسلامية ومن ثقافتها، ففي الوقت الذي استعارت الحركة القومية جهازها المفاهيمي من الغرب عملت الحركات الإسلامية نوعاً من الاستمرارية الطبيعية من أجل أن تصل إلى حداثتها الخاصة، فهي طريقة تمثيل وتعبير لساني عن برنامج سياسي بديل للوجستيات الإيديولوجية للاستقلال السياسي، أو الاستمرار الثقافي للقطائع الناجمة عن إزالة الاستعمار. ويفكر ميشيل سورا المولود في تونس في العام 1947 والمغدور في بيروت في العام 1986 بالطريقة ذاتها، إذ يعد فشل الحداثة الغربية التي استلهمتها المجتمعات العربية والإسلامية من الحملة الفرنسية على مصر هي الذي أدى إلى التوسع المذهل للإسلام السياسي في الفترة المعاصرة، فالفكر القومي المتأثر بالنظرية الفلسفية الغربية والمغرق بالرطانة السياسية هو الذي أسس أنظمة تقليدية مستندة إلى علاقات قرابية وزبائنية وتحالفات كثيفة، وفي منتصف القرن العشرين أصيبت هذه الرطانة السياسية بالشيخوخة، فظهر المثقف المسلم الذي يستند إلى تراث فلسفي كما هو "عند ابن الرشد مثلاً، وابن خلدون" يحمل في كثير من الأحيان ملامح الحداثة ويدفع إلى التأمل في واقع السياسة في الشرق العربي المعاصر. لذلك كان يطالب الغرب بإعادة النظر في الموقف من الحركات الإسلامية لأن حداثة مجتمعاتها لن تمر إلا عبرها. وانتهى ميشيل سورا نهاية تراجيدية محزنة، إذ اختطفته إحدى المنظمات الإسلامية المتشددة، وهي الجهاد الإسلامي، في بيروت في العام 1985، متهمة إياه بالتجسس، وسلمت جثته إلى فرنسا في العام 2005. بينما يؤسس أوليفيه روا، ولد في لاروشيل في العام 1949، وهو الماوي السابق، معجماً كاملاً في نقد جيل كيبل، أجملتها ليلى دخلي في مقالة ممتعة نشرتها مجلة MEDIAPART في عدد مارس 2016، تحت عنوان "علم الإسلام كرياضة قتالية" وقد رأت في الصراع بين أكبر خبراء الإسلام الغربيين، على خلفية بروز الذات في استعراض القوة والشهرة، ترجمة دقيقة لانخراط المثقفين الفرنسيين الواسع في موضوع الإرهاب والعلاقات مع الشرق الأوسط وبنى ما بعد الكولنيالية. فأوليفيه روا هو صاحب المقولة الشهيرة، "ليس هنالك إسلام راديكالي إنما هنالك أسلمة للراديكالية"، وهو يقترب من رأي غلوكسمان من أن الإرهاب الإسلامي هو نزعة عدمية شبيهة بالنزعة العدمية للجماعات الراديكالية في أوربا القرن التاسع والتي صورها دستيوفسكي في رواية الشياطين أبلغ تصوير. وقد هاجم كيبل أطروحات أولفيه روا المؤسسة على الفصل بين الراديكالية كسلوك مؤسس على سياقات اجتماعية وبين الاسلام السياسي كنظرية لاستعادة قوة الدين في التاريخ، وعمد من جهته في كتابه الأخير " الخروج من الفوضى" على توصيف مسار الراديكالية الإسلامية وهي تحبس الشرق الأوسط في حلقة فوضى مرعبة بفضل النموّ الهائل للريع النفطيّ، فهو يحذف على خلاف معاصريه، تراجع الأشكال التقليدية للصراع الطبقي وتأثيره على أسلمة الراديكالية، كما يفعل أوليفيه روا، ويدافع، بدلاً عنها، عن الأطروحة القائلة بوجود راديكاليّة راسخة في الإسلام. وخصوصاً بعد أن دعّمت الملكيات البتروليّة هيمنتها واستغلت ثرواتها لتمويل أيديولوجيا متشدّدة ومحافظة. لكن، ما يعيب هذه الأطروحة هو تفسيره بإيعاز هذه الظاهرة لبحث هذه الملكيات البترولية في الدين عما يسند شرعيتها، ولكنها في الحقيقة، كان دعمها للحركات الراديكالية الإسلامية من أجل زعزعة استقرار الدول التي حكمتها الأحزاب القومية وللوقوف بوجه أحزاب اليسار، ولم يكن هذا بعيداً من تشجيع الغرب وتمويله أيضاً. باختصار أن كيبل في كتابه هذا لا يولي التأويل الدنيوي والسياسي إلا أهمية ثانوية ويتمسك بالتفسيرات الأخرويّة (الاسكاتولوجية) التي حتى وان كانت مدعمة بالديناميات المحلية إلا أنها تختصر تأويلاً حاداً وصلباً للوقائع النصية. وفي هذا الكتاب أيضاً يواصل كيبل هجومه على هذه الأفكار ومعتنقيها، ويدعوهم بــ" الانتلجنسيا الإسلامو- يسارية"، يقول: من يزعم أن داعش لا علاقة لها بالإسلام فهو يجهل التاريخ والنصوص والطريقة التي تستخدم فيها هذه المجموعات المدونات والخطب والمواعظ، فالأمر واضح في نصوصهم ورهاناتهم أكيدة في تفسيراتها. ثم يقول أنهم يستفيدون الآن من التصحيح السياسي، فيجب قيادة معركة المواجهة حيال إخفاق التحليل الغربي المستند إلى رؤى تجعل من الجهادية مصادفة وتنكر أصولها التاريخية، ثم يحمل كيبل بقوة وذلك باتهام السياسيين بالفساد، والصحافة أيضاً، واتهام الأنثربولوجيين اليساريين بالزيف والجهل والمراوغة. أربعون عاما من الشرق المضطرب الشرح المفصل لتبدلات السياقات التاريخيّة والجيوسياسيّة، والخسارات السياسيّة المعلنة في منطقة الشرق الأوسط، والسرد المتشابك والمدعم بالتفاصيل الصغيرة للحروب والصراعات التي هزّت المنطقة منذ السبعينيات، هو عماد التحليل السياسي المشوق في هذا الكتاب وأبرز سماته، فكيبل يغرقنا بالقصص المفصلة حول مسالك الجهاديين، وتفسير نصوصهم، والتفاصيل الشديدة لقيام التحالفات بين القوى المتناقضة والمتصارعة في العراق وسوريا، وأسرار النزاعات بين القوى المتحالفة مثل الصراع بين أبي مصعب الزرقاوي وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري، ويمسك على نحو ثري ودقيق باللحظات التاريخية الكبرى التي هزت هذه المنطقة. كما يحاول جيل كيبل أيضاً أن يجيب على الأسئلة الأكثر راهنية في مستقبل الشرق الأوسط: ما هي عواقب ومستقبل الحركات والمنظمات الجهادية والسلفية؟ ما هي ارتدادات تكسير "الكتلة السنية" والاضطرابات المستمرة في شبه الجزيرة العربية؟ هل تتمكن إيران من الهيمنة على منطقة "الهلال الشيعي"، أو هل ستحول المواجهة الأمريكية مع دونالد ترامب إلى نصر باهظ الثمن؟ ما هو التحكم الذي سيصنعه فلاديمير بوتين من أجل عودة روسيا قوة عظمى مرة أخرى بمشاركتها في القضية السورية؟ هل ستجد أوروبا نفسها في قلب منطقة الأزمات التي تؤثر عليها في المقام الأول بواجهة البحر الأبيض المتوسط التي يعبر من خلالها الإرهابيون واللاجئون؟ هل ستتمكن من التغلب على سلبيتها وقيادتها مرة أخرى للجغرافيا السياسية؟ هل أوربا المصابة بتكلس مؤسساتها عاجزة عن التوجه نحو الطرد المركزي للأحزاب اليمينية المتطرفة باعتبارها مشابهة للشعوبية اليسارية المختلطة مع الإسلاموية. يتغذى كتاب الخروج من الفوضى من أربعة عقود من الانشباك الكامل في أحداث الشرق الأوسط، ومن الخيبة الفادحة بآثار الربيع العربي، فيبتدأ من نقطة حالية هي سحق التنظيم الأكثر شراسة داعش، والهزيمة المعلنة للتمرد المسلح في سوريا، ثم يعود إلى العام 1973 لقياس مدى الاضطرابات التي مزقت المنطقة، وأصل الفوضى المعاصرة، باحثاً عن أسباب ظهور الإسلام السياسي على أنقاض القومية العربية العلمانية.

يقدم هذا الكتاب تحليلاً بنيوياً للتاريخ، ويتابع بعمل متبحر ومدقق لظاهرة الإسلام السياسي وتوسعه، والأسباب الابستمولوجية لفوضى الشرق الأوسط، والسياقات النصية لبروز الحركات الراديكالية ونشاطها. مستنداً هنا إلى أرشيف كبير ووثائق وبيانات مهمة أسندت بحثه بالرصد الدقيق للتحولات التاريخية في المنطقة وتفاعلاتها مع السياقات الاجتماعية، راسما بؤر الاضطرابات من العام 1973 الحرب العربية الاسرائيلية إلى سحق دولة داعش تقريباً في العراق وسورية. في فصول عديدة من الكتاب يتتبع جيل كيبل تدرجات الاسلاموية في السياسة منذ العام 1973، وتوسع مفاهيم الجهاد وارتداداته المتتالية في الشرق، حتى وصوله الغرب كقوة ضاربة، ومن ثم يفسر الظاهرة الجهادية في تمويهها المعلن بين الجهاد الداخلي للقاعدة والخارجي لداعش، من خلال تغيير ستراتيجياتها بدعوة مصادر محلية لارتكاب أعمالها الإرهابية على الأراضي الأوروبية وليس كما حصل في 11 أيلول بتجنيد إرهابيين قادمين من الخارج، ويركز على السنوات العشر الأخيرة أعوام الربيع العربي وكيف تم الانتقال من حماسة الشعارات الديمقراطية الكونية إلى تراجع مشؤوم للسلفية وإلى داعش وهو ما يسميه باستقرار الفوضى في محيط المتوسط. التطور السياسي للظاهرة الجهادية في تتبعه لتطورات الظاهرة الجهادية، يجملها كيبل بثلاث مراحل" الأولى منذ العام 1979 في أفغانستان، وقد تتالت مع انهيار الاتحاد السوفييتي في العام 1989 وبعدها في البوسنة ومصر والجزائر، المرحلة الثانية كانت بتغيير الإستراتيجية حين ضرب بن لادن في واشنطن ونيويورك عام 2001 والمرحلة الثالثة في العام 2005 وهي مرحلة مهمة جداً في تاريخ الحركات الأصولية المعادية للغرب، عندما أشاد أبو مصعب الزرقاوي بالقتال بين الشيعة والسنة، ثم عندما دعا أبو مصعب السوري إلى ضرب أوروبا وما أسماه بالمقاومة الإسلامية العالمية، ومع غليان الربيع العربي ترسخت القوى الإسلامية بأعرافها واستثمرت الساحة. وبالرغم من أن الكتاب يستند إلى بعض أطروحاته المعروفة في مؤلفاته السابقة، إلا أن رحلاته الحالية وعمليات المسح الميداني التي قام بها في العديد من مناطق الشرق الأوسط، وذاكرته العاطفية لأول أيام دراسته في دمشق، وكذلك العمر الذي أمضاه في هذا المجال الخصب الذي حدد مصيره، وصراعاته القديمة، وصداقاته، كل هذا، ميز هذا الكتاب بنبرة عاطفية وأدبية مختلفة، وبرؤية مستقبلية جديدة، من أن الإسلام السياسي في نهايته، وهو في آخر مراحله. 

(*) مدونة نشرها الكاتب العراقي علي بدر في صفحته الفايسبوكية
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024