اللبنانيون كمستهلكين للأزمة

رشا الأطرش

الجمعة 2020/07/03
لعل اللبنانيين اليوم، أكثر من أي وقت مضى، هم مستهلِكون. فلئن تضاعفت أسعار كل شيء خمس مرات أو أكثر، وفقدت العملة الوطنية ما يقرب من 80 في المئة من قيمتها، كما فقدت مدخراتهم بالعملات الأجنبية كل قيمتها طالما أن محجوزة/مفقودة في المصارف، فقد باتوا مستهلكين "أوفياء" للأزمات المحيطة باحتياجاتهم بدلاً من السلع والخدمات الأساسية، مستهلكين لغيابها أو شحّها، من كهرباء ومأكل ومشرب وملبس، مستلزمات الأطفال والطبابة والتعليم والاتصالات. 


هكذا أيضاً، هم مستهلكون – درجة أولى، للحدث، المأساة، الكارثة. والفارق الوحيد أن هذه الأخيرة مجانية، بأخبارها وفيديوهاتها، نصوصها الصحافية والسياسية والإبداعية، الرأي والتحليل والنقد في كل منبر ومنصة، أياً كانت وجهة هذه الآراء وحواملها. تضاف إليها تلك الشحنة الشعورية الكثيفة ومتداخلة العناصر، من غضب ويأس، ضحك وبكاء، صراخ وسخرية، قلة حيلة سقفها اعتصام أو بيان. لم يعد هذا كله يسري بموازاة الحياة أو يتخللها، بل صار هو الحياة، استهلاك البقاء بسيرة الفناء. والنتائج قد تتراوح بين مصيبة التأقلم مع تقهقر طبقي فائق السرعة، وبين "الفعل" الذي يشعر اللبناني أنه الوحيد الذي يستطيعه الآن، لا يمنعه عنه قمع أو فقر أو عجز.. وهو ما نفّذه المواطن علي محمد الهق، اليوم، وسط شارع الحمرا، فأعلن: "أنا مش كافر بس الجوع كافر" وأطلق على نفسه النار. ومثله سائق الفان الصيداوي، سامر حبلي (متزوج وله ابنة)، إذ شنق نفسه في منزله في وادي الزينة وكان يعاني ضائقة مالية.

يستهلك اللبنانيون أخبار مُصابهم بنَهم فاقدي الخبز والأرز. يتداولونها عبر الشبكات الاجتماعية، يساهمون في صنعها أو تصويرها أو كتابتها، والجميع يعلّق: يتهكّم، يشتُم، يندب، ينفجر، ينهار... وإن اعتُبر كل ما سبق "طبيعياً"، في سياق محنة مثل المحنة اللبنانية الراهنة، فإن المَقتل يتبدّى من زاوية أخرى: كل هذا الضجيج، التسريبات الصحافية لاجتماعات الأقطاب، مفاوضات على طريقة العصابات مع صندوق النقد الدولي، تقارير تلفزيونية موجعة ومقالات نارية ومدونات الناشطين والمواطنين الذين يُستدعون بالمئات إلى مقار الأجهزة الأمنية فيُرهَبون وعائلاتهم، الفيديوهات الفنية والصحافية التي تحتجّ وتهاجم، تكشف وتفضح وتشهّر بمن يستحق.. هذا الدويّ اليومي الهائل كله، يعاد تدويره بين الناس، بانتظام وفاعلية لو طُبّقا في ملف النفايات لحُلّت أزمتها إلى الأبد.

السلطة لا تعتبر نفسها أحد أطراف التلقي. قمع الصحافيين والناشطين، وأي صاحب رأي أو حتى سباب ينفّس القهر، لا يعني أنها تتصرف كجهة معنية بمآلات قراراتها أو عقمها، بصُور أدائها وما تفرزه في الشوارع والبيوت. السلطة فقط تكون. الرسمية، كما الرديفة. الرئاسات الثلاث والعسكر، كما حزب الله، وفي أفيائه أو في مرمى سلاحه سائر القوى السياسية والطائفية. مصرف لبنان، كما المصارف الخاصة والهيئات الاقتصادية... هذه السلطة مجتمعة، تفعل ما "فُطرت" عليه. تسلُّط، تشبيح، أمن ذاتي، تَحَصُّن بكل شيء إلا الأداء. حُكم بلا حوكمة. عنف بلا احتكار مُمأسس ومقونن للعنف. خطاب بلا مُخاطَبين. نجاح كبير في فرض الفشل على مجتمع منقسم، منهك، ومنهمك بالمقومات الأولية للعيش. لكن العهد الرئاسي، هذه الحكومة، وهذا البرلمان، لا تنقصهم الدينامية الداخلية. ينغلون نغلاً بالاجتماعات والمؤامرات، لإسقاط الحكومة أو تثبيتها أو "تعديلها"، لوراثة رئاسة الجمهوية أو إعادة تشكيل الكتل النيابية، لحماية الأموال المنهوبة والمهرّبة والماكثة تمتص الرمق النقدي الأخير. يتلاعبون بكل رقم وكل وثيقة، يكذبون بوجوه جفّ ماؤها، وبغباء شديد محميّ بوقاحة أشدّ وبمَوت الثورة.

من هذا المنظار تكتسب الشذرات الإخبارية التالية، معناها: رئيس جمعية المصارف يقول إنه مدعو لكأس ويسكي في مجلس الوزراء. وزيرة الدفاع تغرد بأنه، رغم ارتفاع سعر الصرف، إلا أن المواطن ما زال يدفع 70% مما يحتاج بالسعر الرسمي 1500 ليرة. رئيس الحكومة يخبر المغتربين والآتين إلى لبنان بخطته الاقتصادية: إدخال ما شاءوا من الدولارات. رجل الأعمال والنائب ميشال ضاهر، يحاضر في نظرية الأزمة التي جعلت "لبنان رخيصاً" جاذباً للسياح. الكهرباء تغيب عن مدرج مطار بيروت الدولي في اليوم التالي لإعادة افتتاحه بعد الإقفال لشهور. وزير الطاقة يناشد المواطنين ألا يتهافتوا على شراء الشموع، فيما التقنين الكهربائي صار سمة المولدات أيضاً. ورئيس الجمهورية يتحدث عن السّلم الأهلي، فيما تتعرض صيدليات للسرقة، والمسروقات جلّها حفاضات وحليب أطفال، والإقفال النهائي لمتاجر ومؤسسات تحوّل خبراً يومياً. رئيس أمن المطار، وقبله وزير الأشغال، يلقيان الدروس على الصحافيين، بعد الاعتداء عليهم، في ضرورة أن يكون الإعلام "إيجابياً" فلا ينقل شكوى المستفرين من فوضى إجراءات كورونا. وحسن نصر الله يريد خطوط تهريب مريحة ومفتوحة على سوريا، وينصحنا بتوجيه اقتصادنا إلى الصين وإيران، ويرفع إصبعه في وجه الجوع، ووجهه على لافتة ضخمة فوق أكياس خبز للراغبين في تسوّلها..

هذه ليست دائرة مفرغة. استهلاك أخبار التداعي مستمر، لكن أَجَلَه مسمّى. سنتشارك موائد الحنق والبؤس، حتى التخمة التي ستنقلنا جميعاً، لا إلى فعل تغييري أو حتى تداركي، بل إلى المجاعة بمعناها الحرفي، فالجريمة المنظمة، والدم.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024