فاخوري حلقة في سلسلة: تاريخ مصالح "حزب الله"

محمد حجيري

السبت 2020/03/21
قبل أسابيع، قال وزير الخارجية البريطاني السابق، جاك سترو، في مقابلة تلفزيونية، إن إسرائيل وإيران نسقتا وتعاونتا مباشرة في ما بينهما في المجالات العسكرية والاستخباراتية لتدمير العراق خلال الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات من القرن الماضي. وأفاد سترو أن قيمة الصادرات الإسرائيلية من السلاح لإيران بلغت ملياري دولار وقتها. ومنحت إسرائيل إيران معلومات عن مواقع عسكرية غربي العراق، وقامت إيران بقصفها، وإيران بدورها قدمت لإسرائيل الكثير من الصور لمفاعل تموز النووي العراقي، فدمرته إسرائيل.

ومضمون تصريح سترو ليس جديداً، وإن كان يحمل بعض التفاصيل. فالكل يعرف فضيحة "إيران غيت" وينسب اسمها إلى صفقة سرية، حيث باعت إدارة الرئيس رونالد ريغان، إيران، أسلحة بوساطة إسرائيلية، رغم قرار حظر بيع الأسلحة إلى طهران وتصنيف الإدارة الأميركية لها "عدوة لأميركا"... ننقل هذا الكلام للحديث عن محاكمة العميل فاخوري في زمن الكورونا السياسية وتهريبه بطائرة أميركية، وقول "حزب الله" على  لسان أمينه العام حسن نصرالله، أنه لا يعرف بالحكم، "لم نكن على علم بصدور حكم من هذا النوع وبعقد جلسة للمحكمة"، ثمّ يبرر "حصلت ضغوط أميركية على أغلب المسؤولين السياسيين والعسكريين لإطلاق فاخوري"، ويصل إلى غاية و"زبدة" الموضوع قائلاً: "كل من سكت عن هذا المعبر غير الشرعي في السفارة الأميركية والذي تم منه تهريب العميل فاخوري لم يعد يحق لهم التحدث عن معابر غير شرعية أخرى"، وهلم جرا... ويقرّ نصرالله بأن "قوى سياسية ناقشت معنا مسألة الضغوط الأميركية وكان موقفنا رافضاً بحزم"، لكن القاصي والداني يعلم أن القاضي في المحكمة العسكرية "لا يقلي بيضة إن لم يستشر الثنائي"(الشيعي)، حسبما نقل الصحافي المقرّب من "حزب الله" حسين أيوب... حتى في المحليات اللبنانية، الأوركسترا السياسة اللبنانية، لم تعد تصرح وتدلي برأي شائك إلا إذا أطل نصرالله وأعلن التوجهات العامة للحكومة وأطلق الأوامر المقنعة والمعلنة، وأحياناً من دون حتى ورقة توت. وأبرز مثال على ذلك الحرب على الكورونا وإعلان التعبئة... 


والأرجح أن قضية إطلاق فاخوري تأتي في سياق "الضرورات تبيح المحظورات". فحزب الله، وإن لم يوافق مباشرة، لكنه غض النظر. هي مسرحية من المسرحيات، ومهزلة من مهازل المحكمة العسكرية التي تحولت إلى مطية للالتفاف على بعض القضايا أو مطية للاستعمال السياسي... وإن لم تكن قضية فاخوري فضيحة لحزب الله، فهي فضيحة للدولة اللبنانية، التي تحجز عشرات الموقوفين بلا محاكمات، بينما ينهمك رأس الدولة في قضية فاخوري... إن لم يكن حزب الله "متورطاً"، فالحكومة اللبنانية أو الذين يديرونها في الكواليس، تورطوا أو شاركوا على الملأ، لأسباب باتت معروفة... دونالد ترامب رئيس "الشيطان الأكبر"، شكر الحكومة اللبنانية على المساعدة بإطلاق سراح فاخوري. الدكتور حسان دياب، الذي يفترض أنه رئيس حكومة لبنان، كتب عبر "تويتر": "لا يمكن أن تُنسى جريمة العمالة للعدو الاسرائيلي. حقوق الشهداء والأسرى المحررين لا تسقط في عدالة السماء بمرور الزمن". ربما كان عليه أن يقول أن اطلاق فاخوري يأتي في إطار "مواجهة التحديات". وهو، انتبه أو لم ينتبه، إلى أن فاخوري اطلق سراحه بحكم قضائي لبناني، لم يهرب على طريقة كارلوس غصن، بل طار بطائرة اميركية غطت في قلب السفارة الأميركية في عوكر، بالتنسيق مع الرادار اللبناني... "الناس قاشعة" كما يقولون، والطائرة لم تكن شبحية، واستدعاء السفيرة الأميركية من وزير الخارجية ناصيف حتي، ليس أكثر من فولكلور...

وبين رضا التيار العوني عن الإفراج عن فاخوري، و"غضب" حزب الله الملتبس، أعلن العميد حسين العبدالله، ابن الخيام، ورئيس المحكمة العسكرية تنحيه قائلاً: "احترامًا لقسمي وشرفي العسكري، أتنحى عن رئاسة المحكمة العسكرية التي يساوي فيها تطبيق القانون إفلات عميل، ألم أسير، تخوين قاضٍ". تبرير كوميدي، إذ كان يفترض بالقاضي تذكّر ألم الأسير قبل إصدار الحكم، وليس بعده...

"حزب الله" سيعبّر عن "غضبه" الشكلي، انطلاقاً من مبدأ "غداً يوم آخر"، والجمهور ينسى ويتناسى... وسيضع في الواجهة أن الاستراتيجية الكبرى لا تعيقها تفاصيل من هنا وهناك، واعتبار حلف باسيل لا غنى عنه. وفي الجوهر، "حزب الله" ربيب ايران، يتعاطى في السياسة انطلاقاً من أن المصالح فوق المبادئ، وهناك تجارب عديدة في هذا المجال، تبدأ في "اتفاق مار مخايل" بين حزب الله والتيار العوني، الذي قام على التقاء الأضداد والتناقضات، بين من يعتبر نفسه المقاومة الاسلامية في لبنان ورأس المواجهة ضد اسرائيل، وبين من كان يتبنى القرار الدولي 1559. وأبعد من ذلك، كان "حزب الله" يصنف التيار العوني، في نهاية الثمانينات، في خانة "الصهيوني". والتيار العوني نفسه، بعض قادته ومؤسسيه، ليسوا بعيدين من موجة عامر فاخوري، ولهم صور خاصة وهم يصافحون الضباط الاسرائيليين أثناء اجتياح لبنان... وعامر فاخوري الفار، ليس منفصلاً عن سياسة التيار الباسيلي، وهناك من أعطاه الطمأنينة حتى عاد إلى لبنان. هناك من قال له أنه يستطيع العودة الى لبنان، استناداً إلى تفاهم مار مخايل الذي يتضمن بنداً ينص على حلّ لقضية الفارّين إلى اسرائيل..

وقبل اتفاق مار مخايل، وانطلاقاً من منطق المصالح، تحالف "حزب الله" مع "القوات اللبنانية" في قضاء بعبدا في انتخابات 2005، في إطار زوبعة "الاتفاق الرباعي"... بعد ذلك أتت سموم الارهاب، وشهر "حزب الله" سيف محاربتها، وحين أوقف الوزير السابق ميشال سماحة محملاً سيارته بالعبوات المعدّة للتفجير لتوزيعها في لبنان، أصاب الحزب صمت القبور، باعتبار أن سماحة مستشار حليفه بشار الأسد. وبعد معركة جرود القلمون، نقل الدواعش بالباصات الخضراء المكيّفة، متناسياً دماء العسكريين والمدنيين... وأبرز نموذج على منطق تغليب المصالح على المبادئ، في مسيرة "حزب الله"، يتمثل في تأييد معظم الثورات العربية، وحين وصل الأمر الى سوريا، دفع "حزب الله" دماً لإبقاء النظام...

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024