الإلهة الأمّ

محمود الزيباوي

الأربعاء 2021/03/24
في الأيام الماضية، احتفت وسائل التواصل الاجتماعي بعيد الأم ويوم المرأة العالمي بالتزامن مع تذكار الموتى في التقويم المسيحي الغربي، وفاض هذا الاحتفاء المثلّث بالتعابير الأدبية والفنية التي تتغنّى بالمرأة الأنثى والأم. في الواقع، يعود هذا الاحتفاء إلى التاريخ الموغل في القدم، كما تشهد العديد من القطع الأثرية التي وُجدت في مختلف أقاليم العالم، ومنها تلك التي أخرجتها حملات التنقيب الأثرية المتتالية من الأراضي السورية في العقود الماضية.

تعود أقدم هذه القطع إلى الألفية السابعة قبل المسيح، وهي على شكل كتل صغيرة من الطين المشوي تمثل هامات نسائية مجرّدة الملامح، وتتميز بأثدائها الضخمة وبأوراكها المكتنزة، ومنها على سبيل المثل قطعة من محفوظات متحف دمشق مصدرها تل أسود، وقطعة من محفوظات متحف حلب مصدرها تل المربيط. يقع تل أسود في ناحية النشابي، وهي احدى النواحي التي تتبع منطقة دوما في محافظة ريف دمشق. ويقع تل المربيط على الضفة اليسرى للفرات، في محافظة الرقة. وتظهر الاكتشافات الأثرية التي خرجت من هذه الأوابد لحضور التماثيل الأنثوية في مناطق تعتبر من أقدم مواطن الحضارة الإنسانية. تمثل هاتان القطعتان نسقا جامعا راج في تلك الحقبة الموغلة في القدم، وفيه يبدو الوجه ملتصقا بالجسد من دون عنق، وتغيب عنه السمات والملامح، ويحضر القسم الأعلى من الساقين، ويتميّز بفخذين ممتلئتين. كما يبرز القسم العلوي من الجسد بشكلٍ عارٍ تماما، ويتميّز بثديين ممتلئين يشكلّان الجزء الأكثر حضورا في كلّ من القطعتين.

النسق الحلفي
في الفترة الممتدة من الألفية السادسة إلى الألفية الخامسة قبل المسيح، يظهر نسق جديد يمثل ارتقاء نوعيا في هذا التعبير الفني الأنثوي، ويُعرف هذا النسق بعصر الحضارة الحلفية، نسبة إلى تل حلف. يقع هذا التل في شرق شمال سوريا، غرب مدينة رأس العين، في منطقة ينابيع نهر الخابور، أكبر روافد الفرات، وتجاوره تلال أخرى تماثلها بثراء آثارها في العصر الحجري الحديث، وهو العصر الذي يمثل المرحلة الأخيرة من عصور ما قبل التاريخ، أي عصور ما قبل ظهور الكتابة.

في الألفية الخامسة قبل المسيح، برزت الحضارة الحلفية، وبرز معها نسق أنثوي جديد ساد في مختلف بقاع هذه المنطقة. هنا تبدو المرأة جالسة، وتتميز كذلك ببروز علامات أنوثتها، وبالأخص صدرها الناتئ ووركها المكتنز. ملامح الوجه تبقى غائبة، واللافت هنا حضور الذراعين اللتين ترتفعان وتلتفان حول الخصر في كثير من الأحيان. تبعا لهذه الوضعية، تستقرّ اليدان تحت الثديين لرفعهما في عدد كبير من النماذج التي وصلتنا، وأشهر هذه النماذج تلك التي خرجت من تل كشكشوك القريب من مدينة الحسكة. وتتميز بعض هذه القطع بزينة تلوينية تتمثّل بسلسلة من الخطوط الحمراء والبرتقالية والبنية الترابية، ومنها قطع محفوظة في متحف اللوفر الفرنسي، والمتحف البريطاني في لندن، ومتحف البرغامون في برلين.

لا تخرج القطع التي تنتمي إلى هذه المجموعة عن هذا النسق إلا في حالات نادرة، ومنها قطعة اكتشفها عالم الآثار الياباني يوشيرو نيشياكي في موقع سكر الأحيمر الذي يقع على الضفة اليمنى لنهر الخابور، على بعد سبعة كيلومترات إلى الغرب من مدينة  تل تمر. يتميّز هذا التمثال في الدرجة الأولى بوجهه الذي حافظ على ملامحه بشكل جلي، كما يتميز بتناسقه التشريحي، وطوله 14 سم، ويبدو انه استعمل كأداة طقسية. في الواقع، تثير هذه التماثيل الكثير من الأسئلة التي تتعلّق بوظيفتها الأصلية في المجتمعات التي صنعتها وتبنّتها. ومال علماء الآثار إلى القول بأنها تمثّل الإلهة الأم التي احتلّت موقعا رفيعا في عقائد مجتمعات حضارة حلف، وقد صُنعت على شكل مخروطي آخذة وضعية الجلوس لتُعرَض في حاويات الحصاد، وذلك كي تحفظ وتحمي الازدهار، والأرجح انها كانت توضع كذلك فوق المحاريب في الأماكن المخصصة لأداء الطقوس الدينية لأغراض مشابهة.

أبرزت هذه التماثيل بنوع خاص مناطق الخصب عند المرأة، وجسّدت خصوبة الطبيعة وبدت تشخيصا لها، وهذا ما تظهره بوضوح الشهادات الكتابية في الأدبيات السومرية التي ظهرت في مراحل لاحقة، وتمثّل بداية التاريخ "المقروء". في هذا السياق، يمكن القول إننا نجهل أسماء وألقاب هذه الإلهة الأم في الأزمنة التي سبقت ظهور الكتابة المقروءة، والأرجح انها كانت تجسّد الخصب والعطاء وازدهار الطبيعة، وقد وهبتها الحضارات اللاحقة التي عرفت الكتابة هذه الصفات نفسها، وجعلت منها أم الخليقة والخلائق.

النسق العبيدي
اندثرت الحضارة الحلفية بعدما غزا هذا القطاع قوم من جنوب الرافدين، وانتشرت حضارة أخرى تُعرف بالحضارة العبيدية، وذلك نسبة إلى تل العبيد الواقع على بعد ثمانية كيلومترات غرب مدينة أور في جنوب العراق. سادت هذه الحضارة في إقليم واسع امتدّ من عربستان شرقاً إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط غرباً، ومن سلسلة جبال زاغروس شمالاً حتى الخليج العربي وشبه الجزيرة العربية جنوباً، وبرز في زمنها مثال أنثوي جديد وصلتنا منه عشرات القطع. هنا تحضر الإلهة الأم منتصبة مع عقد كبير يلتفّ حول عنقها، وتاج عريض يكلّل رأسها، وتظهر ملامح وجهها مع العينين الدائرتين والأنف، كما يظهر شعر رأسها الذي يحيط بطرفي وجهها في الكثير من الأحيان، وهي ذو حوض واسع يكشف عن فرج محدد بمثلث تزيّنه شبكة من الخطوط يختلف تأليفها بين نموذج وآخر.

في القطاع الفراتي السوري، عُثر على الكثير من القطع التي تتبنّى هذا النسق في تل حبوبة الكبير الذي يقع على الضفة اليمنى لنهر الفرات الأوسط، على بعد ثمانين كيلومترا تقريبا إلى الشرق من مدينة حلب، وفي تل السلنكحية المجاور له. تماثل هذه القطع بشكل كبير تلك التي عُثر عليها في جنوب العراق، ومنها تماثيل محفوظة في المتحف البريطاني في لندن، وتمثال من محفوظات المتحف العراقي في بغداد، ومصدرها مدينة أور. ويتميز التمثال المحفوظ في بغداد بحضور طفل بين ذراعي الإلهة الأم. 

يربط البعض بين هذه الإلهة الأم والإلهة نمو، أم الآلهة السومرية التي نتج من حركتها تكوّن الكون الأول الذي يتضمّن السماء والأرض في حالة تلاصق واندماج. خرج هذا الكون من هذه الأم الإلهة، ومنه خرجت "الآلهة البدئية التي تشكّل منها الكون، وهي قديمة وأزلية في الوقت نفسه، لأن أجسادها تشكّل الكون والعالم"، بحسب تعريف خزعل الماجدي. تُعتبر "نمو"، الإلهة السومرية الأم الاولى، والمعنى الحرفي لأسمها "ماء الأم"، وفي هذا الاسم تشبيه صريح لولادة الكون بالولادة البشرية. ومن هذه المياه الازلية ظهر الآلهة والكون.

تقول هذه الإلهة: "إعلم أنني أنا هي التي ولدت جميع الإيجيجي/ أنا التي خلقتهم بكاملهم/ هم وكذلك مجموعة الأنوناكي العظام". والإيجيجي هم مجموعة آلهة السماء، أما الأنوناكي، فهم مجموعة آلهة العالم السفلي. كانت "نمو" ساكنة، لكنها تحركت، وبدافع الحركة والسكون كان ظهور السماء والأرض، وكانا في حالة التصاق وعناق. والسماء في الأساطير السومرية ذكر يمثله الإله "آن"، وقد تزوج إلهة الارض "كي"، وولِد لهما الإله "إنليل" إله الهواء أو الريح ، كما ولد لهما "إنكي"، إله الماء والمطر. هكذا وُلد أكبر الآلهة الذين يتحكمون بالعناصر الأربعة الرئيسية التي يتألف منها الكون: السماء والارض والهواء والبحر. وكانت وسيلة الخلق عندهم تقوم على استخدام الكلمة الإلهية، فكان كل ما على الإله الخالق، هو أن يرسم الخطط ويتفوه بالكلمة وينطق الاسم.

تحوّلات الصورة الواحدة
تكرّر حضور الإلهة الأم بهذا النسق العبيدي في العالم الفراتي وبلغ العالم المتوسطي، كما تشهد القطع الكثيرة التي تتبناه في قبرص، وتحضر في هذه المجموعة الأم التي تحمل طفلا قوق ذراعيها، على مثال قطعة أور المحفوظة في المتحف العراقي. هكذا تخطّى هذا النسق حدود العالم العبيدي، واكتمل في العصور اللاحقة حيث اتخذ طابعا حسّياً جلياً، والأمثلة عديدة، منها تمثال من محفوظات متحف دمشق مصدره مدينة ماري الفراتية يعود إلى القرن الرابع والعشرين قبل المسيح. 

صُنع هذا التمثال من النحاس والفضة والصدف اللؤلوئي وحصاة اللازورد، ويجسّد امرأة عارية جاحظة العينين تمد ذراعيها في اتجاه الأمام، تحيط بشعرها عصابة من الذهب يعلوها قرنا الألوهة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024