ترامب اللبناني

رشا الأطرش

الجمعة 2020/11/06
لعلها بديهية الأسباب التي تجعل اللبنانيين، مثل بقية شعوب الأرض، يتابعون الانتخابات الرئاسية الأميركية بهذا الكم من الشغف، بل والمثابرة على تثقيف الذات بأسماء الولايات وتقنيات العملية الانتخابية المعقّدة.. نحن الذين علت صيحات حيرتنا أمام القانون الانتخابي غير المفهوم حتى هذه اللحظة.


طبعاً، كلنا مهتمّ. أميركا هي الدولة الأقوى في العالم، أو هكذا هي في مخيلتنا ومخيلة المعمورة منذ عقود طويلة. والقوة جذابة، مهما قاومناها. سياستها الخارجية تؤثر في حياتنا السياسية والأمنية والاقتصادية بشكل مباشر. إيران، "حزب الله"، العقوبات، صندوق النقد الدولي، ترسيم الحدود مع إسرائيل، دومينو "اتفاقات أبراهام"، الجالية اللبنانية والعربية والمسلمة الهائلة بين مهاجريها، وملفات سوريا والعراق وفلسطين ذات الارتباط الوثيق بالسِّيرك اللبناني الأسوَد. أميركا تعنينا، بقدر ما تعنينا مصائبنا وآمالنا.

لكن انتخاباتها الرئاسية تأتي، هذه المرة، بنكهة إضافية: ترامب الذي ما عاد المرشّح غريب الأطوار والغامض، الملياردير محدث النعمة، القادم من خارج الاستابلشمنت ليطيح هيلاري كلينتون الرصينة. هو ترامب الذي تابعناه وتعرفنا عليه جيداً طوال السنوات الأربع الماضية: العرض المتواصل من الدهشة، بكل ما تتيح لنا أدبياتُ المفارقات تحميله للكلمة، من انحطاط وتغوّل، قذارة ورجعية وذكورية، اضطراب نفسي وكذب وسوريالية وكوميديا مُظلِمة. لكنها تبقى دهشة. مسرحية، فاقعة، غالِبة كل متوقَّع ومحسوب. دهشة مجنونة، مسلية ومثيرة للغضب والذعر في آن.

حتى هذه النقطة، ربما يتشارك اللبنانيون مع مساكنيهم في الكوكب، أسباب الانخراط الذهني والشعوري في معمعة "أميركا تختار" هذا العام. إضافة إلى كل ما أعدّتنا له السينما، مع التلفزيون والموسيقى وصناعات الانترنت. لقّمتنا "السيستم" الأميركي بالملعقة، وابتلعناه مستمتعين مع البوشار: من النظام القضائي، إلى إدارة الحملات الانتخابية، التاريخ وألاعيب السياسة، وأبرز الاحتكاكات العرقية والطبقية والجندرية في المجتمع الضخم المتنوع، وصولاً إلى أتفه الحزازات في أصغر القرى. كلنا يشعر أنه يعرف هؤلاء الناس، ولو لم يزُر أميركا في حياته، ولو لم يعرف من الإنكليزية سوى "يس" و"نو".

لكن للبنانيين أسبابهم الخاصة أيضاً لمتابعة "سي إن إن" و"فوكس نيوز" و"نيويورك تايمز"، و"تويتر" باللونين الأزرق والأحمر. فأميركا الآن مرآة قارّية ضخمة لما ابتلي به بلدهم الذي بالكاد يُرى في الخريطة. الأميركيون أيضاً يتصارعون حول رئيس عجوز، نزق، مُعادٍ للإعلام والحريات والنقد وكل ما في الديموقراطية من مضادات لرغباته وطموحاته. متوهم، نرجسي، غارق في جنون عَظَمته، صهره في السلطة وأولاده حوله في قصره الرئاسي. الأميركيون، مثلهم، مفجوعون بتعيينات ترامب القضائية، وهو الذي يخاطبهم بمفردات "أميركا العظيمة" ويعظّمهم معها، وفي الوقت نفسه يحتقر بعضهم وينصّب نفسه مُخلّص البعض الآخر.. مناصريه حصراً. مهجوس بالخيانة والمؤامرة، دوماً ثمة مَن يريد تقويض نجاحه وشعبيته اللتين ليس لغيره منهما نصيب. وهو يعانق الكرسي كمسألة حياة أو موت. الدعاوي والشكاوى القضائية لعبته المفضلة، ضد ناشطين وصحافيين بل والمؤسسات الدستورية الأميركية. بذيء، ليس معجباً بالنساء إلا مَن انضوين في الحرملك الإعلامي والسياسي، والسيدة الأولى كمالة صورة. يعاني حكاكاً مضنياً كلما سمع كلمة من صنوف "الغريب" (لاجئ، نازح، مهاجر، غير مسيحي..)، فهؤلاء أساس البلاء لكل أمّة صحيحة نقية. أمّة، سُمح لكورونا باختراقها، فتكاً بالبشر والاقتصاد، أكثر مما كان متوقعاً في أرض الموارد والريادة الطبية والتكنولوجية.. فقط بأثر من العناد والإنكار والخبل الرئاسي الذي لا يضاهيه ذكاء الصفقات. 

كل هذا في أميركا العملاقة، وطن نضالات حقوقية بأثمان باهظة، وسيرة حرب أهلية مديدة ثمة مَن يجادل الآن (متمنياً) احتمال تجددها في حال خسر مَن لا يخسر. أميركا التي يمكن القول إن إعلامها يصنع الآن الانتخابات واحتمالات الرئيس العتيد. "سي إن إن" المعلومات والتحليل والسخرية، خلطة سحرية تأخذ العقل، وشبكة تلفزيونات أميركية تقطع البث المباشر لكلمة الرئيس لما احتوته من "أكاذيب"! واللبناني تستدير عيناه فيما يشاهد، ثم يضحك، ثم يشتُم، ثم يدلي بدلوه في وسائل التواصل الاجتماعي.. المراقَبة! ترامب يريد وقف عدّ الأصوات هنا، واحتساب ما يعجبه من الأصوات هناك. كأن الولايات المتحدة، فجأة، تشابه البترون عشية إقرار قانون النسبية. المناصرون بالقبعات الحُمر يشتبكون مع القبعات الزُّرق، وعِلم الألوان يثبت أن البرتقالي تنويع حمراوي. مناصرو الرئيس هم أنفسهم أنصار السلاح وانتشاره، مرخصاً وغير مرخص. البرتقالي أيضاً نِتاج أحمر وأصفر.

كيف تتعامل أميركا مع مصابها؟ يتفرج اللبنانيون ويعقدون المقارنات. العَرض مبهر. خيال علمي.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024