في"الغابة المظلمة".. مروة عادل تبحث عن جسد بلا ختم

سارة عابدين

الإثنين 2018/12/24
الفن دائماً ما يحاول إثارة التساؤلات حول بعض المفاهيم المتداولة، وتفكيكها وإعادة استكشافها من جديد، ويقوم هذا التساؤل على علاقة تبادلية بين الفنان والمتلقي، إذ يحاول الفنان بلورة أفكار وتجسيدها، في مقابل المتلقي الذي يحاول التواصل مع تلك الأفكار واستكشافها. ومن أهم الأفكار التي يطرحها الفن المعاصر هو "مفهوم الهوية" وماهيتها وكيف تتكون، وهل تتغير الهوية على مدار الحياة؟ وكيف يمكن للفرد أن يحدد هويته الشخصية في ظل سيطرة الهوية المجتمعية التي تحاول دائماً فرض نفسها على الفرد؟

في معرضها الأخير"الغابة المظلمة" في غاليري مصر بالقاهرة، تحاول الفنانة البصرية، مروة عادل، استكشاف مفهوم الجسد وعلاقته بالهوية في لوحات فوتوغرافية، تركز على الجسد الأنثوي بشكل جزئي، حيث تتمحور معظم أعمالها، حول استكشاف مفاهيم جدلية متعددة، كالجسد الإنساني والهوية، وجدليتهما مع المحظورات الاجتماعية والثقافية. وتهتم في أعمالها بتناول الجسد كمحاولة لإظهار التطور والصراع اللانهائي بين أشكال الوجود الأساسية التي تعيش في حالة من التناقض والعداء الدائم، في محاولة منها لاكتشاف العلاقة بين الشكل والجوهر وما تحمله هذه الصراعات من معان وأفكار.



اختارت الفنانة ثيمات الشفاه والعيون والأنف والوجه، لتركز عليها بحثها البصري، الذي عملت من خلاله على دمج الصور الفوتوغرافية، الخاصة بأجزاء الجسد الأنثوي، مع صور أخرى لتحدث تأثيرات متباينة، مثل تأثيرات البحر وأوراق الورود المتناثرة، وأغصان الأشجار، وبعض التأثيرات التي تضفي هالة من الضبابية على الوجوه الإنسانية وتحولها إلى وجوه متشابهة، ذلك التشابه الذي ربما يحيلنا بشكل ما إلى النمطية التي تطمس الهويات الفردية، وتفرض أخرى جمعية تتناسب مع قيم وأفكار وعادات المجتمع.

العنوان الذي اختارته الفنانة لمعرضها "الغابة الظلمة"، يعود بشكل مباشر إلى الجسد الأنثوي غير المستكشف، والذي يحرم المجتمع الاقتراب منه منذ الطفولة، حيث أن الجسد شبيه بحقل من الألغام، ينفجر إذا حاولنا استكشافه. حتى الوجه الإنساني من وجهة نظر مروة عادل، لم يسلم من محاولات طمس الهوية، رغم كونه أكثر مناطق جسم الإنسان تكثيفاً للقيم العالية، حيث يتبلور من خلاله الإحساس بالهوية، وعبره نتعرف على الآخر. لذا تعمل الفنانة على شكل من أشكال تشويه الوجه وملامحه، لأن أي تشوه في الوجه، يحرم الفرد من هويته، بعكس التشوه في أي عضو آخر من أعضاء الإنسان. والفرق اللامتناهي بين الوجوه الإنسانية بشكل عام هو موضوع تساؤل دائم من خلال البورتريهات والمرايا والصور الفوتوغرافية.



تستعيد الفنانة مجد الجسد الأنثوي وصوره من خلال مناظير متنوعة، بحيث يصبح الجسد وسيطاً أو وسيلة، تخلق بها الفنانة رؤيتها الشخصية، تبعاً للمعاييير الفردية، بطريقة تتيح لها التعبير بحرية عن فكرة سيطرة المرأة على جسدها (غابتها الشخصية)، والتشكيك في مسميات الجندر والهوية المتداولة، وتطرح سؤالا عن معايير الجمال في المجتمع المعاصر.

في "الغابة المظلمة"، لا تستخدم الجسد برمزياته المتعارف عليها، كالجنس والجمال، لكنها تحاول عرض إدراك جديد لمفهوم الجسد، من خلال تفكيك ذلك المفهوم بصرياً، باستخدام وسائط التصوير الفوتوغرافي، باللونين الأبيض والأسود. صورت الفنانة روح الجسد الأنثوي، لأن إزالة اللون واعتماد الأبيض والأسود فقط، يسمح للمشاهد بالتركيز على مميزات الوجه والجسد، وفك شفرة مشاعر "الفيغور" والبورتريه، أو ملامحه، من دون إلهاء من اللون لجوهر الصورة الفوتوغرافية. ولأن الفن ليس تمثيلاً للواقع، بل يخلق عالماً جديداً بالقوة نفسها، كما قال جياكوميتي؛ فإن قاعة العرض بالفعل تحولت إلى عالم جديد، مختلف عن العالم الملون، عالم أكثر تجريداً، تظهر فيه الخطوط والأشكال بلا تشويش لوني، بالإضافة إلى سهولة اتصال المشاهد بشكل أعمق مع الوجوه والعيون التي صورتها الفنانة.

الأعمال تعطي انطباعاً، بالوحدة، والعزلة، والخوف والكآبة، وهي من الثيمات الأساسية التي تحاول الفنانة إيصالها، حتى من خلال عنوان المعرض، الأمر الذي يعزز تجربة المشاهد وعلاقته مع الأعمال، ويجعله يفكر في هويته الشخصية ومدى اتساقه مع هذه الهوية. فالإنسان أحيانا يتغاضى عن جوهر الجسد، ويتغاضى عن الإنسان الذي يحتويه ذلك الجسد، فنحن لا نرى أبداً جسداً منفرداً، نحن نشاهد رجالاً ونساء بمشاعرهم وأفكارهم، وكياناتهم الإنسانية الكاملة. لكن المجتمع في أحيان كثيرة، لا يهمه سوى التمثل الجسدي للإنسان، وذلك الختم المجتمعي الذي يوصم الجميع.



فكرة النسوية حاضرة بقوة في أعمال المعرض شكلاً ومضموناً، بداية من الزهور والفراشات بأشكالها المختلفة، ومواضعها المتباينة، ووقوفها على الشفاه، أو غرقها بداخل بحر من المياه الثقيلة، أو تموضعها داخل الحدقات. لكنها ليست زهوراً وفراشات تمثل حالة الجمال الهش المتعارف عليه عن تلك الكائنات، بل هو جمال عميق، مُعذِّب، حاد، لا يتفاخر بكونه جمالاً متفقاً عليه، لكنه يحاول فرض سطوته بالقوة، من طريق الاعتراف بكل الألم بداخله، لأن الألم عادة ما يصاحبه بعض الجنون، وبعض القوة والتخلي التي تفرضها التجارب المؤلمة. وبالطبع هذه ليست واحدة من أهداف الفن النسوي في الأساس، حيث أن الفن النسوي قائم على خلق جدل وحوار بين المشاهد والعمل الفني، من منظور المرأة، ولا يهتم فقط بالشكل الجمالي، لكنه يحرّض على تكسير التابوهات الاجتماعية والسياسية، من دون استخدام عناصر تزيينية من أجل التزيين المحض فقط.

للعناوين أهمية كبيرة في لوحات عادل، لأنها تخبر المشاهد قليلاً عما يدور في عقل الفنان، وبالصراع الأساس الذي يشغلها، بالإضافة إلى المضمون التعبيري المحمل وراء المضمون البصري. (الحقيقة، الوهم، تائه في الغابة، انعكاس، الرؤية، أثر الفراشة، المحاصرون، الغابة، بدون وجه) هي عناوين، تحمل مدلولات عاطفية، وتعمل إشارة صغيرة تبلور الفكرة في عقل المشاهد، وتوفر فكرة أو اتجاهاً لمن هم في حاجة إليها، كما أن العناوين تخلق خطاً سردياً موازياً للخط البصري، وتحرضه على تحريك المشاعر والأفكار، وتؤجج الصراع الذي تعمل عادل على إظهاره في لوحاتها.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024