محمد علي شمس الدين لـ"المدن":الشِّعر سرٌّ يبحث عن سرٍّ

محمود وهبة

الجمعة 2019/03/01
بعد غياب خمس سنوات، يطل الشاعر محمد علي شمس الدين بمجموعة شعرية أقرب ما تكون إلى القبس الشعري. "كرسي على الزبد"، المجموعة الرقم 23 في مسيرة الشاعر والصادرة عن دار الآداب في بيروت، تشكل استمراراً ورافداً لما بدأه منذ نصف قرن. حول "كرسي على الزبد"، جدوى الشعر في زمن الموت والخراب، كان لـ"المدن" معه الحديث التالي:

- بعد تجربة شعرية غنيّة وممتدّة من "قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا" وحتى "النازلون على الرّيح". تطلّ علينا اليوم من خلال "كرسي على الزبد". ما هو كرسي على الزبد؟ وماذا أردت من خلاله؟

* "كرسي على الزبد" هو جزء من قصيدة بنفس العنوان أقول فيها "هي القفار ونجمي لا يسامرها... وهي البحار وعكّازي على الزبد"، وثمّة في المجموعة قصيدة أخرى اسمها "عصفورة اسمها الحياة" فيها المقطع التالي "جالساً على مقعد فوق هذا الزّبد / ضربت على وتر غامض ضربتي وأصغيت / كانت على البحر تطفو مراكب مهجورة / وفوق الصّواري تمرّ النّوارس مثل البروق / وناديتُ طيري الغريب ليأتي أيا نورسي وحبيبي / فلم يأتِ ناديتُ بالألسنِ السّبعة المشتهاة ولكنّه ظلّ يمضي على صفحةِ الماء ظلّاً كئيباً غريباً مُريباً  ومنسحباً كاعتذارٍ نقدّمه للحياة" هذا هو كرسي على الزبد باختصار.

- قسّمت المجموعة إلى ثلاثة أقسام مختلفة "أغاني الكورس | تسع قصائد إلى حافظ | مقاطع إلى الجميل". هنا نبصرُ تمجيداً للحياة وعروجاً إلى مفاصل دقيقة في تجربة الإنسان - الشاعر. إلى هذا الحدّ وصلت في التجربة والعمق؟

* نعم المزاج العام للمجموعة هو تأمّلي، أي كما تبيّن الصّورة، ثمّة شخصٌ ما جالسٌ على كرسي، على شاطئ البحر وكأنّه جالسٌ على كرسي من زبد الماء وينظرُ للبحر. ثمّة عناصر للتأمّل في الصورة. النّظر للبحر بذاته هو تأمّل، تأمل في غموض البحر وامتداده، جماله ورعبه، وهي الحياة. الملمَحُ الآخر هو أن هذا الجالس على الكرسي على الزبد، على الرمل، على الشاطئ، جالسٌ على مادة زبديّة، مادة هشّة. أنا لستُ جالساً على صخرة، جالسٌ على زبد الماء للدّلالة على الهشاشة.

- ألهذه الدّرجة يكون الوجود هشّاً؟

* بالطّبع الحياة كلّها فيها جانب من الهشاشة وجانب من الفراغ الذي يلفتني وأسمّيه العدم. هذا الجانب الوجودي العدمي من الحياة هو الذي يردُ في شعري، ليس الآن فقط، بل منذ أن أخذت القلم وكتبت. ولا أخفيك أنّ هذه الغريزة أيضاً معزّزة بانحيازي لشعراء وكتّاب ابتداء من المعرّي الّذي كان يؤلمه عقله وكان يميل إلى العدميّة أحياناً، وصولاً إلى بعض فلاسفة الأدب الوجودي إلى بول تسيلان وآخرين طبعاً، أنا باصطدامي بالحياة واحتكاكي بالوجود كتبتُها عدّة مرات. أنتَ إذا أعدتَ قراءة مجموعاتي ستجدُ كثيراً من ملامح الأسئلة حول ليس الإمتلاء فقط  بل الفراغ أيضاً كما قال جان بول سارتر ثمّة الوجود وثمّة العدم.

- في قصيدة "ماذا سنفعل بالياقوت" تعيدُ تعريف الشعر بشكل مختلف وملتبس أيضاً. ماذا تقول وهل تغيّر تعريفك للشعر؟

* "ماذا سنفعل بالياقوت" هي قصيدة يظهر فيها الوجه المرئي من قمرِ الشّعر. الشعر له وجهان مرئي ومستور. الوجه الموجود في الظلّ في القصيدة أنا سأقوله وهو عبارة عن سجال مع سعيد عقل حول معنى الشعر.

يقول سعيد عقل:
الشعرُ قبضٌ على الدّنيا مشعشعةً

كما وراءَ قميصٍ شعشعتْ نُجُمُ

الشعر بالنّسبة لسعيد عقل هو قبض على عنقِ الأشياء. والأرجح أنه في قوله هذا يشير إلى نجمين مشعّين خلف قميص امرأة، صورة جميلة. ولكن في أساس هذا التعريف للشّعر أنّه استيلاء على الوجود والقبض على خناقه بقوّة. هذا هو الوجه المخفيّ من الصّورة. أما الوجه المرئي الظاهر "ماذا سنفعلُ بالياقوت يا أبتي... وكلما زاد بعدا زدتهُ طلبا". أقصد بالياقوت هنا الشّعر. ياقوتة الشعر. لماذا سمّيته بالياقوت؟ لأنها مشعّة وثمينة، وهذه الياقوتة كلّما ازداد بعدُها زدنا في طلبها. المعنى واضح. الجدال في النص هو قولي "لكنّه شفّ حتّى خلته قمراً... خلف القميص فلمّا أوشكَ احتجبا".

أنت تخالُ نفسك تقبض على عنق الشّعر، وفي الواقع أنت تقبض على ظلّ، والشّعر لا يُقبض على خناقه ما أن يوشك أن يظهر حتى يحتجب. هذا هو الجمال. الشّعر بالتالي هو السّعي وراء الشعر. لذلك لا ينتهي لأنّ الطّرق إليه لا تنتهي. لا يمكنُ القبض عليه. حين نقبض عليه ينتهي ويصل إلى تعريف محدود. الشعر هو سرّ يبحث عن سرّ وكل قصيدة هي اقتراح لمعنى من معاني الشعر.

- في هذه المجموعة المتألّقة تنويعات موسيقيّة وتقلّبات في الوزن الشعّري. هل ما زلت عند رأيك بخصوص موسيقى الشّعر؟

* لا ريب. الموسيقى هي الموسيقات. للشّعر موسيقات وليس موسيقى واحدة وهذا ما يسمّى بلغة النّغم (الإيقاع)، في حين أنّه في الشّعر هو الوزن أو الأوزان. بالتالي لا شعر بلا إيقاعات وزنيّة. الوحيد الذي سمّى الوزن في الشّعر إيقاعاً هو الفيلسوف ابن سينا. هذه مسألة تتعلق بالهندسة والزّمن. بالنسبة للّغة العربيّة هي بتركيبها لغة موازين لأن الإشتقاق فيها هو اشتقاق عمودي على خلاف اللّغات الأخرى. مجرد أن تقول مفردة مباشرة تجد لها وزناً. لهذه الناحية كان ارتباط الشّعر العربي على امتداد تاريخه الطّويل الذي يمتدّ لأكثر من ألفي عام. كان ارتباطه بالأوزان ارتباطاً تكوينيّاً لغويّاً ، لا شعر بلا لغة واللّغة هي روح التّاريخ المتطاول والمتغيّر وهي روح الجماعة كالموسيقى تماماً لكنّ ذلك لا يمنع من نظرة أخرى إلى معنى إيقاعات الشّعر وتوازناته في الهندسة والنّغم وفي الزّمن أيضاً.

تمّ التفاتٌ،  وهو قديمٌ، إلى الزّمن الدّاخلي للقصيدة. هذا الإلتفات أسقط شكليّة التّعريف، أسقط الشّكل الصّنمي للعمود الشّعري وانتبه إلى عمق الشعريّة في داخل النّص من مدّة طويلة، منذ ابن الرّومي حين يهجو صاحب الوجه الطّويل  بقوله:
 "مستفعلن فاعلن فعول / مستفعلن فاعلن فعول
بيتٌ كمعناكَ ليس فيه معنى سوى أنّه فضولُ".

نستنتج النّظرة إلى الشّعر أنّه ليس أمراً خارجياً، مجرّد الشّكل في الوزن هو فضول ليس له معنى. هذه مسألة محسومة منذ قديم الزّمان، مع ذلك الشّعر هو ذاك الإكتمال التّام بين الشّكل والدّاخل، بحيث أنّ الشكل الدّاخلي ( الشّعرية : la poeticite ) هي الأساس، على هذا نستطيع أن نقبل كلّ الخروج على الأوزان. أن نقبل الخروج على العمود الشعري أي تراتبيّة القصيدة وشكلها. كان هناك دائماً خروج لشعراء كبار وصولاً إلى مطالع الحداثة الشعريّة حيث ارتفع صوت بودلير وطرح السؤال المهمّ "هل يمكن أن نشتقّ من النّثر قصيدة؟" أو poeme de prose ). وهو سؤال قديم بمعنى دائماً الشّعر يأتي من قاع النثر. الشّعريّة حين تحفرُ في العمق فإنّ الأوزان تذوب في نارها القويّة، نار قويّة من الخيال والصّورة والمعنى  والتناسقات اللغويّة. طبعاً هذا أدّى إلى توسيع أفق الشّعريّة العربيّة ودخول إضافات نصّيّة على الفكرة، ابتداء من على أحمد باكثير في مصر مروراً بلويس عوض وصولاً لجماعة مجلة شعر (أنسي الحاج، أدونيس، شوقي أبي شقرا) وهنا لا أذكر يوسف الخال لأنه لم يكتب قصيدة نثر. وصولاً إلى شعراء الأجيال التالية (سركون بولص، بول شاوول، عباس بيضون، وديع سعادة، بسام حجار ...) وصولاً إلى الجيل الأخير محمد ناصر الدين - فيديل سبيتي -  وفاء أخضر - لوركا سبيتي وجيلكم الآن باسل الأمين - بهاء إيعالي -  محمود وهبة زنوبيا ظاهر الخ. وليعذرني من لم أذكر اسمه فهم موجودون طبعاً.

هذه التّدافعات أعطت مجالاً تنفيذيّاً إجرائيّاً لفكرة حقيقيّة وقديمة في أنّ الشعريّة لا تكمن في الشّكل فقط بل هي روح، والشّعر هو كلّ أشكاله.

الشاعر والزمن

 - ماذا يفعل بك الزمن؟

* الزّمن هو أزمنة في الحقيقة، وكبار الشّعراء في العالم والتّاريخ كانت لهم أفكار حول الزّمن . منذ أن قال هيرقليطس "الزّمن طفل" وصولاً إلى أنواع الزّمن في تجربة ابن عربي وأخيرا تي. إس. إليوت في تجربته الكبرى في أنماط الزمن.

باختصار هناك زمن السّاعة والوقت الذي قال فيه إليوت في آخر أيّامه  "إنّني أتناول الوقت بملاعق القهوة". هذا هو زمن السّاعة (العدّاد). لكن الأثر الأكبر في الفلسفة والشّعر والدّين هو الزمن الداخلي.

وهناك تسمية لهذين الزمنين وردت عند ابن عربي مشتقّة من النّص القرآني (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم). الأوّل هو زمن الآفاق والثّاني زمن الأنفس الذي ليس له حدود والذي يستطيع من خلاله الشّاعر أن يمتدّ من أوّل الخلق إلى نهايات البشر . هذا هو الزمن الآخر الذي يلعب دوراً أساسياً في أيّ شعر عميق وعظيم. طبعاً أنا عندي الزمنان. يعني عندي تسجيل للحظات يومية وتسميات بذاتها وعندي وجه آخر لا محدود أستطيع أن أقول فيه أنا طفل دائم، شاب باستمرار من أجل هذا تجد أن لي امتدادات مع الأجيال الآتية وهذه الإمتدادات ستبقى مستمرّة والسّبب هو أن هذا النّص الخصب الشّعري يفتح دائماً الآفاق لمن يقرأ ولمن يرغب في استنباط مكنونات النّص الذي لا يعطي نفسه دفعة واحدة ولا على دفعات، بل هو فيه شيء من المراوغة والإلتباسات والغموض الشفاف الذي يعطيك إيحاءات لا تنتهي. هذه نظرتي للزمن ببساطة والشّواهد موجودة في "كرسي على الزبد".

- يشاع اليوم أنه زمن الرّواية. وأنّ الشعر بات بلا أنصار. كيف تنظر إلى مثل هذه الأفكار المتداولة؟

* في جدال مع الدّكتور جابر عصفور في القاهرة منذ عامين أثرتُ هذا الموضوع بشكل قوي. الرواية فنّ جميل ورائع في الحقيقة وخاصّة الرواية العالميّة وبعض الرّوايات العربيّة. "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، "حجر الصّبر" لعتيق رحيمي إلخ...

أذكر عوالم متداخلة وليست بعيدة عن الشّعر ولا عن الفلسفة. إذا تتداخل هذه الفنون جميعها، يبقى أن الفارق بين الشّعر والرّواية هو أنّ الأخيرة تستند إلى السّرد، وإلى متابعة الأحداث بالطّرائق السّردية ومن خلال الرّاوي أو السّارد أو المؤلّف، أيضاً هناك وجود وحضور للحوار. في حين أنّ الأساس في الشّعر هو ذلك الإختزال البرقي من خلال اللغة لأوسع وأبعد أنواع المعاني وإذا أردت أن أبالغ بقولي أقول أنه يمكن الإلماح لرواية بكاملها تحت جلد القول الشّعري. وهناك أمثلة كثيرة حول هذا الفارق لأنّه الوصول إلى الحقيقة هو طريقة، والطريقة السّردية تختلف عن الطريقة الشّعريّة.

ثانياً هذا الإختلاف في الطريقة ليس اختلافاً تفضيلياً، بل إنّ الروائيين الكبار ممن نالوا نوبل كان في بياناتهم وقراءتهم لبيانهم في نوبل أنّهم يتوقون إلى الشعريّة في الكتابة الروائيّة، وإنّهم انطلقوا من الشعريّة، الشعريّة كأفق وكاختزال برقي لكلّ أحاسيس الكون .

أما القول بأنّ الزّمن زمن رواية فلا شك يُعنى به ان التاريخ مملوء بالشعر. تاريخ الفنون هو تاريخ الشعر تقريبا وليس تاريخ الرواية. بروز الفنّ الرّوائي الحديث بهذه القوّة خاصّة لدى روائيّي أميركا اللاتينية ربّما هو مؤشّر إلى أن هذا الفنّ يأخذ مكانته في صحن الحضارة. ولكن بالطبع هذا لا يلغي الشعر والشعرية. ولا يعطي للرواية كفن أولويّة في الوصول للحقائق وتصوير الزمان والمكان والأحداث وأيضا في التعامل مع المخيّلة.

- كيف تقرأ المشهد الشعري اليوم؟

* المشهد الشعري كما يصلُ إليّ وأصل إليه من خلال قراءاتي واحتكاكي المباشر بالعوالم الشعريّة العربية والمحليّة. أسجّل بأنّ هناك ما أسمّيه تفتّت أو تبعثر الشّعريات والإبتعاد من مدة طويلة عن التركيز حول النجم الشعري وهذا الأمر موجود في الغرب أيضاً.

الملاحظة الثانية هي الإبتعاد بالتدريج عن مصادر تاريخيّة للشعر وهي مصادر ليست محصورة بالشعراء الأقدمين بل أيضا تتناول كلّ التراث الفلسفي العلمي الأدبي التاريخي.

الملاحظة الثالثة هي دخول التطوّر التكنولوجي والإشاري أي علامات الضوء والصوت ودخول الإنترنت في تشكيل اللغة الشعريّة والرؤية.

رابعاً وعلى خلاف ما يُظن تحوّل الشعر إلى أن يكون اليوم هو ديوان العرب. ديوان العرب بأيّ معنى؟ أنتَ مع انحسار الإعلام الورقي وهجمة الإعلام العنكبوتي. حقول الرؤية هي حقول تأملات في الشعر. أنتَ لا تجد روايات في الفايسبك، بل تجد ما يتمّ الإصطلاح على تسميته شعراً. فإذا القول بأن الرواية هي ديوان العرب سقط عملياً فعاد الشعر ديوان العرب، وهكذا هو ديوانهم اليوم. أخيراً المشهد الشعري العربي المعاصر هو مشهد في عمقه يصلح أن يكون إشارة signe  إلى الرّوح العربيّة المتشظية الخائفة المضروبة من خلال هيمنة التوحّش سواء كان في العقيدة أو في التّعامل المدني الذي يتيح مجالا للفكّ المفترس لرأس المال أن يفتك بالجماعات، ناهيك عن الحروب وعن محاولات النهوض التي غالباً ما تنتهي إلى الدمار وإلى المزيد من البؤس، أجد كل هذا في نصوص متفرّقة ، طبعاً ليس هنالك شاعر واحد استطاع أن يكون هو الصّوت الشّامل للعصر. شخصياً حاولتُ من خلال قصيدة "دموع الحلّاج"، القصيدة التي كتبتُها على مدى ثماني سنوات وصوّرت فيها اختلاجات النفس وما جرى في الجنوب اللبناني وأحاول أن أكون من هذه النّاحية ودون إهمال التفاصيل، أحاول الإمساك بالخط الأساسي للتاريخ العربي وأن أعمل عليه. أرى شظايا من هذا في أماكن مختلفة ومتفرقة. خاصّة أن عصر النجومية زال والرّواد الأوائل إما ماتوا أو سكتوا.

ماذا عن تجربتك النثرية؟

* لديّ الان تجربة جميلة وهي إعادة إصدار طبعات جديدة من كتبي النثرية "رياح حجرية، كتاب الطّواف، غرباء في مكانهم، حلقات العزلة". يضاف لذلك كتاب ضخم بعنوان "فهرست الكائنات الشّعرية" في ثلاثة أجزاء . كتاباتي النثرية هي الجناح الآخر للكتابة عندي أنا أتنفّس في النثر كما أحلّق في الشعر، وقد أخذت حيّزاً كبيراً من حياتي الكتابية. وهي كمّاً ونوعاً قد توازي دواويني الشعرية.

- هل لديك ورثة في الشّعر؟

* من خلال اطّلاعي وقراءاتي لكلّ ما يكتب ويُقال أستطيع القول إن لديّ ورثة في الشعر . هذه المسألة قيلت، إنّ "قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا" خلقت أجيالاً من الشّعراء في كلّ العالم العربي من العراق، الأردن، مصر وسواها. هذا النمط من الأسلوب التعبيري يشكل إطاراً تعبيرياً ليس بالقليل. الورثة موجودون كظلال، كاستعمال للعبارة، كانتباه للتاريخ وللأقنعة، نعم موجودون.

- ماذا بقي من الروّاد اليوم؟

* لم يبقَ من الرّوّاد غير ثلاثة أدونيس، أحمد عبد المعطي حجازي وسعدي يوسف.

أدونيس يتحوّل إلى مزيد من التمسّك باللغة ويقدّم في نصوصه الأخيرة عمارات تغلب عليها البلاغة والشّبق اللّغوي. هو يرفض كلّ شيء، ولكن هذا الرّفض يأتي ويظهر من خلال بلاغة عربية. 

أحمد عبد المعطي حجازي منذ مدّة طويلة ساكت، إكتفى بما أعطاه منذ عشرين عاماً لم يكتب جديداً.

سعدي يوسف مشغول في مشاكله والملاحظات التي يكتبها بين يوم وآخر هي نوع من ردود عصبيّة لحظويّة على ما يحيط به من مآزق، لم يعد هناك سعدي يوسف قديم. سعدي "جداريّة فائق حسن"، سعدي "نهايات الشمال الأفريقي". أصبح مشغولاً بشكليّات رفض غير مستقرّ وغير مقنع. هذه بقايا روادنا بالمعنى الشامل والعام.

رؤية

- تقول أنكَ نرجسي حتى العظم. لماذا؟ وكيف تبرّر هذه النرجسية؟

* النرجسيّة في علم النفس الفرويدي مبنيّة على أسطورة نرسيس الذي كان معجباً بنفسه وينظر إلى صورته في المرآة وهي حالة مرضيّة عالجها فرويد. أنا شكلتُ انزياحاً في هذا المجال.

أنا كثير الإستعمال للأقنعة في شعري من أشخاص تاريخيّين ومعاصرين. تجدُ قناع ليلى، قيس، الحلاج، فان غوغ، غوغان، جبران، الشيرازي، المعرّي.

هناك مئات الأقنعة الّتي أستعملها في شعري وهي طريقة من طرقي الشّعريّة. هذه الطريقة تجعلُ النص بين قطبين، قطب القناع المأخوذ منه، وقطب الإيكو، الذات الداخليّة التي هي أنا (الشّاعر). محمّد علي شمس الدّين .

في هذا الصّراع أنا نرجسي جداً لا أدعُ الآخر يغلبني في القصيدة وأنا مضطر أن أكون كذلك لأنّه لا يكون ثمّة من معنى لاستعاراتي التّاريخيّة.

هكذا أنا نرجسي بعدم نقلي للصورة الكلاسيكية بل بخلق صورة جديدة، وخلق صراع بين الأصل والقناع يتغلب فيه الأصل وهو أنا - الشاعر.

ما جديدُك؟

* لدي كما أسلفت كتاب "فهرست الكائنات الشّعريّة" الذي يجسّد علاقتي بهذا العالم الشائك على مدى نصف قرن. سيصدر قريباً عن دار الأمير في بيروت وأنا في طور تصحيحه ووضع اللمسات الأخيرة عليه.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024