ميكرو حزب الله

رشا الأطرش

الثلاثاء 2020/11/17
في لحظات متواترة كاشفة، كتلك التي أنجبها فيديو التظاهرة النسائية في الضاحية ضد المسؤول في "حزب الله" علي أيوب، يتسنى للبنانيين من خارج "الضاحية وشعبها" استراق النظر عبر فتحة القفل إلى الكانتون.. أو الغيتو، بحسب زاوية الرؤية. وقد يُتاح التمعّن في المعنى الحرفي لدويلة "حزب الله"، بعيداً مما ابتُذلت في وصفه هذه الكلمة، للتأمل في شكل سُلطته على مناطق اجتماعه، بالمعنى "الميكرو"، المصغّر والمفنّد أهلياً وحزبياً وعشائرياً، بدلاً من "الماكرو" الذي باتت معروفة انطباقاته على العموم السياسي والأمني والشعبي اللبناني.

تباينت الآراء والمعلومات، أمس، حول التظاهرة الصغيرة، بين مهلّل وشاجب. بين قائل بأن أيوب، الذي تولى فض اشتباك مسلّح وقع قبل أيام بين عشيرة آل المقداد وآخرين من أصحاب مولدات الكهرباء، سلّم أحد أبناء آل المقداد للسلطات اللبنانية، ولذلك نزلت نساء العشيرة هاتفات شاتِمات. وبين آخرين اعتبروا التظاهرة دليل عافية، إذ شهّرت بتجاوزات المسؤول في الحزب، والذي، كما قالوا، استخدم نفوذه لمصالح شخصية ومالية، وهي مصالح تربطه أيضاً بمتنفذين داخل الحزب. لكن التفاصيل ههنا ليست ذات مغزى. ليس لأنها غير مهمة وغير مؤثرة في حياة الناس، أو لا تنطوي على اتهامات جدية وربما جرائم جنائية وانتهاكات. إنما لأن تفاسير هذه "التظاهرة الناعمة" تدور حصراً بين جدران غرفة الصدى التي هي الضاحية، حتى ولو سُمعت خارجها فاسترعَت الانتباه والفضول من باب غواية التلصص على قوي محتجب.

وسواء كنّ محقّات في نعت أيوب "بالحرامي" و"الكذاب"، أم كنّ في الحقيقة محتجّات فقط على تسليم أيوب، ابن المقداد، لأجهزة الدولة اللبنانية، أي على استدخال هذه الأجهزة "بيننا" (استنساباً أو حتى بالمطلق)... فهؤلاء النساء لم يُردن إسماع صيحاتهن للنيابة العامة أو القضاء أو دوائر الناشطين. هن يتوجّهن إلى "حزب الله"، وربما بعض القوى العشائرية التي يحسب لها الحزب حساباً لدواعي التهريب ومواسم الانتخابات. يخاطبن السلطة المحلية. وانتشار الفيديو هو عملياً توسيع لغرفة الصدى هذه، بأدوات التواصل الاجتماعي، لتشمل المزيد من "شعب الضاحية"، وربما "شعب الجنوب" و"شعب البقاع". وأي إضافة مصدرها ترددات موجات أخرى، ليست سوى أضرار جانبية للمعركة المستفيدة من حصانة جسدية نسبيّة تتمتع بها النساء في الشارع، ومن المساحات الفضائحية الضاحيوية الإضافية التي توفرها الشبكات الاجتماعية بعد الفضاء العام الذي شهد المسيرة.

هنا، "حزب الله" كل شيء. في السياق الوطني، هو مهيمن، ذو بأس، يستطيع فرض شروط وتعديل مسارات، لكنه لا يسعه أن يكون السلطة كلها. أما في الإمارة الصغيرة، فهو الحزب الحاكم، والوحيد تقريباً. هنا، خلافاً لتعريفه الطائفي واللبناني، يغازل التوتاليتارية المصغرة. لا خيارات خارج قوالبه إلا استثناءً، وبين يديه خيوط الدين والحياة اليومية والثقافة والاقتصاد واللباس والأمن والطبابة والتعليم، وطبعاً الفساد، شأنه شأن أي سلطة وكل سلطة بالمعنى المباشر والتنفيذي.

ومنظار ميكرو حزب الله، أو تجلياته العلنية، جديد نسبياً. فحتى العام 2009، لم تكن غالبية الشيعة، وبينهم صحافيون ومثقفون ودائرون في أفلاك اليسار، لترى الحزب بالمعايير الآدمية للسلطة، ولو عارضته. كان المفصل الكبير، في 7 أيار 2008، محل استنكار وأحياناً عداء بمفردات "الماكرو" اللبناني. استخدام السلاح في الداخل، لحماية سلاح ما عاد "مقاومة". لكن الجميع تقريباً ظلوا يرون في عناصر الحزب "هدوءهم" و"تهذيبهم". حتى إيديولوجيتهم المُختلَف معها، بل حتى المكروهة، بدت سِمة اندهاش بخصمٍ أو عدو كاملِ الانضباط فيها، ونقيٍّ صافٍ في ذوبانه الروبوتي في شعاراتها وأحكام "سيدها"... إلى أن تسرّبت، العام 2009، قضية صلاح عز الدين وإفلاس شركته "لتوظيف الأموال" بفوائد خرافية و"إسلامية"، وكان كوادر في "حزب الله" من بين زبائنها، إضافة إلى العديد من أبناء الطبقة الوسطى الصاعدة بفضل حزب الله وشتى قطاعاته.

وقبل عز الدين، كانت التساؤلات قد بدأت تدور همساً، عن زوجة هذا الحاج التي صارت فجأة تحمل "موبايل آخر موديل" وتقود سيارة دفع رباعي "مفيّمة"، أو أبناء ذاك الحاج الذين يقيمون حفلات زفاف باذخة ويشترون شققاً لا يحلم بها أبناء جيلهم. ثم توالت إعلانات العقوبات الأميركية التي راحت تميط اللثام عن تفاصيل مثيرة، كالأدب والسينما البوليسيَين، بلغت أراضي اكزوتيكية ومافيات أميركا اللاتينية. ما عادت العقوبات شأناً سياسياً أو "سيادياً" أو حتى "امبريالياً" يستهدف لبنان ومكوّناً أساسياً من مكوناته، وقد يستقوي به خصوم الحزب في المماحكات الداخلية. بل صارت نصوصها وملفاتها، مفتاح أنسنة لهذه السلطة المسماة "حزب الله"، أي إرجاعها سلطة ايديولوجية مسلّحة "طبيعية"، من مصاف البشر المنضوين فيها، دون "الله" المدبّج في اللوغو وهالات الرعيل الأول المُصدَّرة للاستهلاك.

في الآونة الأخيرة، تتكاثر المناسبات من شاكلة التظاهرة النسائية الأخيرة ضد "الحاج علي". الفيلم صار مسلسلاً، وفتحة القفل تتسع ومعها مجالات الرؤية. لكن المفارقة أن تعويل "الشعب" ما زال على استصلاح "الميكرو" بدلاً من النهضة بـ"الماكرو".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024