"باتل راب": المصارعة اللازمة ثقافياً

روجيه عوطة

الثلاثاء 2019/10/01
ثمة تقليد تعمد "آرينا الشرق الأوسط" (الحلَبة) إلى إرسائه في بيروت ومنها، وهو الـ"باتل راب"، أو راب العِراك، بحيث أنها تواظب منذ أكثر من أربع سنوات على تركيز مشهده، وجعله واسعاً، ليستقبل فنانين مقيمين ومهاجرين من نواحي العالم المتحدث بالعربية.

على أن الـ"باتل راب" سرعان ما رسا في بيروت، وسرعته هذه تتعلق بأن الراب ليس غريباً عنها، ولا تعني ألفته معها أنها مركزه رغم مساعيها لأن تكون كذلك. على العكس، إذ إن الراب، وفي حين كان ينشأ داخلها، كان قد نما في أطرافها، ليكون مقدرة كلامية لمن هم ليسوا فيها، و"ناصر دين الطفار" هو بمثابة مثال متواصل. لكن، سرعة ارساء "معارك الراب" ليس مرده "تراث الراب" فحسب، بل أيضاً لزوم "المعركة" التي تشغل موقعاً في سياق بعينه، أي سياق الثقافة على مختلف نواحيه.


ففي هذا السياق، تنعدم الصراعات، ويغيب كل حراك. فيحل مكانها التزاحم الذي يكاد يكون مخالفها، أو بالأحرى نافيها، لا سيما أنه يستند إلى معيار رسمي، لا ينتجه السوق وقانونه، بل ابتذالهما، أو ظلاميتهما تحديداً، وعندها، يصير التزاحم مجرد تسابق على عدد من الإجراءات الوصولية. في هذه الجهة، لا يعود هناك أي صراع أو حراك فكري وايديولوجي في الثقافة بين شغيلتها، يتناول ويبدل أحوالها ومآلاتها من خلال مقاربتهم لأعمالهم. إنما، وبعد حلول المزاحمة مكانه، تغدو الصلات التي تجمع هؤلاء هي ما يشبه صلات القوة، مولدةً مسالكهم من التبعية إلى الخبث.

على هذا النحو، ينقلب سياق الثقافة إلى مجرد محيط للاستنقاع، ويصير كل حديث فيه مجرد خطبة لحراسة ذلك التزاحم، إذ يشكل ويعيد تشكيل خرسه ولغوه، حتى لو ادعى أنه، وفي لحظة ما، ضده لغاية محددة وهي منع أي تغير فيه: "المستنقع يقلب مياهه الآسنة من وقت إلى ثان لكي لا يتسلل إليه ضوء".

من هنا بالذات، يبرز الـ"باتل راب" وكأنه لا يسد حاجة إلى مماثله وإلى جمعه في الثقافة، بل أنه يؤكد على ضرورته وإشباعه. فالـ"باتل" تؤمّن، على خشبته، مستهلاً نظرياً لكل صراع وحراك فكري وإيديولوجي: الكلام بين المتعاركين بدلاً من العنف الكامن بالسكوت. تشكيل الكلام لا يلغي تحريره، لا يلغي المصارحة، بل يبلورها، مستعيضاً عن المقولات والأفكار بالـ"بانشلاين" أو "القَفلة المؤثرة". الكلام يمرر كلاً منهم في محنته. والمحنة هذه تستقر كلعبة، الـ"أنا" فيها ليست سابقة عليها لكي تعطلها إن ارتفعت أو انتفخت. بل إن المحنة تتألف داخل المحنة لكي تحملها إلى خاتمتها. نهية هذه اللعبة ليست العودة إلى السكوت، إنما استمرار اللعبة مع تغير المتعاركين الذين لا تدور علاقتهم بالتزاحم، إنما بالتنافس، أي تدبرهم لنفوسهم، وكل بحسب أسلوبه، في حين تراطمها. بهذا، العراك يُغني الراب، لا ليجعله مجرد مساحة ذم ومدح، إنما لكي يحث فنانيه على استكمال تجاربهم، ونقلها إلى مراحل أخرى.

هكذا، من الممكن سحب الـ"باتل راب" على الثقافة، ليستقر كل صراع أو حراك على منواله، ليس من جهة المشهد، إنما من جهة المفعول، أو الأثر الذي ينشط الكلام، ويجعله حياً في كل نواحيها، حتى تصير على معناها المعجمي الكلاسيكي: المثاقفة ترادف المسايفة أو "المُرامحة"، الملاعبة بالسيوف والرماح. هذا الأثر كان قد لخصه مغني الراب "الدرويش" في آخر جولة من جولات الآرينا في مواجهة زميله "إيليام" (الدقيقة 19,30 في الفيديو أدناه): "بباتل للجيل الجديد يشوف صورة منيحة عن الباتل راب، يعني غير يلي انته رسمينا، بباتل لغير بعقول المراهقين يلي بموتوا بالباتل بس ما بيسمعوا اغانينا، ليحكوا بالمستقبل عني وعنك كيف تمردنا بشوارعنا ونهضنا بثقافتنا عن يلي محاصرينا، بباتل لنطلع كلنا لفوق، وكرمال ما ننسى نحن وين بدينا، بباتل حتى احمي روح المقاتل فينا".



©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024