فؤاد م.فؤاد لـ"المدن": حتى بين الأوبئة هناك "خِيار وفقّوس"

المدن - ثقافة

السبت 2020/04/11
الفزع هو الشعور المشترك الوحيد بين كل الأوبئة التي عرفها الانسان منذ نشأتها، أو ربما نشأته. الفزع من هذا الغامض الذي يسري بين الناس، فيتساقطون مرضى أو موتى، أو ينتظرون، قلقين ومترقبين، أن يكونوا واحداً من هذين الاثنين.

الفزع الذي يصل حد التبشير بنهاية العالم وفنائه. فمنذ اكثر من خمسة آلاف عام وإلى يومنا هذا، يقرع البشر- ما أن يحدث الوباء- ناقوس نهاية العالم، ويعلنون كل مرة أن الإنسان ملعون بطبيعته ويستحق سخط الآلهة وغضبهم، يستحق أن ينزل به عقابهم. الوباء هو فرصة الطبيعة لتردعنا عن غيّنا وتجبّرنا.

الفزع حد الاعتكاف والانسحاب والموت الاجتماعي. الفزع حد التضرع وطلب المغفرة. الفزع حد التسارع إلى التضامن في وجه العدو الخفي الذي لا يرحم، حد الابتهاج الطفلي بهذا التضامن الذي يزيل عنا بعضاً من الروع، ويطمئن هذه الروح الفزعة.

الفزع من الأوبئة ومن الفناء بسببها، لا يعادله أي فزع واجهه ولايزال يواجهه الانسان، ربما حتى من الدمار النووي الذي بشر الناس به انفسهم، أو من الإرهاب الذي تشن حروب باسمه.  الفزع من الأوبئة لا مثيل له، موجود في عمق جيناتنا.



يموت الانسان المعاصر، لأسباب لا تمت إلى الأوبئة بصلة، أكثر بكثير مما يموت بسببها. تقضي حوادث السير مثلاً على مليون ونصف مليون شخص سنوياً، من دون أن يؤدي ذلك إلى أن نكره السيارات أو نفزع لمرآها. 800 ألف شخص يموتون منتحرين كل عام، ما يعادل مدينة بحجم سان فرانسيسكو أو ليفربول، ومع ذلك لا نرى في شاشات CNN عدّاد المنتحرين يتكُّ كمؤقت قنبلة في فيلم تشويقي مستمر. وصل رقم الذين قضوا من أمراض القلب فقط في العام الفائت إلى 18 مليون شخص. أكثر من نصفهم كان بالامكان تجنبه لو فقط قرروا الضحايا تغيير نمط حياتهم (وأوّله التوقف عن التدخين) هذه أرقام تؤكدها أطنان الأبحاث المنشورة وكبرى المعاهد العلمية.

حتى بين الأوبئة هناك "خيار وفقوس". أوبئة لاتزال تعيش بيننا ومعنا، منذ أكثر من أربعة آلاف عام، ولاتزال تحصد أرقاماً مهولة، لكننا قررنا أن ننزع عنها صفة القلق ناهيك أن نرفعها لمرتبة الفزع. الملاريا مثلاً، أصابت في العام 2018، 225 مليون شخص (أرجو عدم القفز فوق الرقم بسرعة، وإعادة قراءته على مهل... مئتان وخمسة وعشرون مليون شخص)، وأدت إلى وفاة نصف مليون منهم (500000 – باعتبار الأصفار تخيف اكثر من الكلمات احياناً. وبمناسبة الأرقام، فإلى وقت قريب، قريب جداً، بين عامي 2000 و2009 كانت الملاريا تميت أكثر من مليون شخص سنوياً)...

كل هذا ونحن نعرف أسباب الملاريا، ونعرف كيف نتّقيها، وكيف نعالجها، وحتى كيف نتنبأ بها. أضف إلى ذلك أن الملاريا مرض قديم جداً وصفه الصينيون في العام 2700 قبل الميلاد (نعم منذ أربعة آلاف وسبعمئة عام) – ولم ترتق معرفة البشر إلى ربطه بالمستنقعات والأهوار إلا بعد مضي 2300 عام على وصفه (كان ذلك في العام 400 قبل الميلاد)، أما عن معرفة العامل المسبب للمرض، وبعدها العلاج، فقد استغرقهم اكثر من ألفي عام. (للمقارنة فقط، هذه الأربعة آلاف عام بين وصف الملاريا، ومعرفة عاملها الممرض، أصبحت في حالة الكوفيد -19 اسبوعين فقط بين وصف المرض والتشريح الجيني لفيروسه!!).

الفزع رافق الملاريا فترة ما، ثم توقف البشر عن ذلك، طالما أن 90% من ضحاياه حالياً في أفريقيا، وطالما أن المحطات التلفزيونية لا تذكره في نشرة الأخبار.


(ملاريا في جنوب السودان - غيتي)

لكن دورة الفزع تعود بشدة، كلما ظهر وباء جديد، سيما إن كان هذا الوباء ينتقل بالهواء. هذا فزع يرقى إلى حد الأسطورة. أسطورة الهواء الفاسد الذي ينقل الموت رافقتنا منذ ذلك الزمن السحيق وصارت في جيناتنا. الهواء الذي يسبب الموت الأسود (الطاعون) مرة، ومرة الموت الأصفر (الحمى الصفراء)، لكن الملاريا وحدها فقط من احتفظ بالاسم الأصلي: الهواء الفاسد (mal = bad, aria= air).

أسطورة الهواء الفاسد هي ما يدفعنا دائماً أن نبحث عن هواء لنا وحدنا، هواء لا تلوثه أنفاس الآخرين. الآخرون المرضى بالإحتمال، المرضى بالتأكيد. الآخرون الذين يخبئون الرعب لنا في رذاذهم، في القطيرات التي تتطاير من أفواههم. مسافة الهواء هذه أصبحنا نقيسها بدقة. نتابع بشغف اخبار من يقول لنا كم يجب أن نترك مسافة بيننا، لنشم فقط هواءنا. متر؟ متران؟ أكثر؟ تقول بعض الأخبار أن الرذاذ يستطيع الطيران ستة امتار، فنطير إلى الرصيف المقابل والغرفة الأخرى ونغلق على انفسنا الأبواب كي لا يلاحقنا هواءهم، الهواء الذي أفسدوه بحماقاتهم، واستهتارهم، وتجرؤهم على الطبيعة، الأم المنتهَكة.

لا دليل يقول بأن هذا الوباء سيمتد طويلاً. لن تمر اشهر قبل أن تتم السيطرة عليه. على الأقل في بلدان المحطات الإعلامية الكبرى والاقتصاديات العملاقة. هو لن يرقى حتى إلى أساطير الأوبئة التاريخية التي استمرت سنوات وأحياناً قرون، واستحقت مكانتها في المدونات الكبرى. ومع انحساره سينحسر الفزع، وننسى ما لمنا أنفسنا بشأنه، وما حملناه كذنبٍ تجاه أمّنا الطبيعة، لتؤجّل نهاية العالم مرة أخرى.

لكن الفزع سيبقى كامناً في انتظار الوباء الجديد. الوباء الذي سيحمل لنا معه صفحة ونصف صفحة أخرى من كتاب: أساطير نهاية العالم. 

(*) شهادة كتبها الشاعر والطبيب السوري فؤاد م.فؤاد لـ"المدن" حول كورونا وأخواته.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024