أردوغان وماكرون وصِدام الحضارات

محمد صبحي

الخميس 2020/11/05
كما هو متوقع، نُصب فخّ صدام الحضارات، في فرنسا كما في النمسا. انبرى معلّقون في تغذية الخطاب المعادي للمسلمين، بحجة انعزاليتهم ولا-أوروبيتهم. الخلفية الكولونيالية تحضر بقوة، من الجانبين، كما يحضر اسم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كزعيم محتفى به وكمتهّم مشتبه فيه. لا يمكن القول إن أردوغان ألهم الشاب التونسي الذي أوقع ثلاثة قتلى في محيط كنيسة نوتردام في نيس الفرنسية، لكن من الواضح أنه من خلال استهدافه فرنسا وإهانته ماكرون، عرف كيف يستغل الفرصة لكسب شعبية محلية و"إسلامية" على أرضية نقاش تغيب عنه الموضوعية إلى حدّ كبير. في النتيجة، اشتعل العالم الإسلامي، من المحيط الأطلنطي إلى شرق آسيا، أُحرقت أعلام فرنسا وصور للرئيس الفرنسي بموافقة "القادة المسلمين"، بمن فيهم أولئك الذين (مثل تركيا نفسها) دانوا مذبحة نوتردام في نيس.
ما الخطر في ذلك؟ أن ينفتح صندوق باندورا على تشكيلة شرور خطيرة. ففضلاً عن الجائحة الوبائية التي لا تفرق بين الأمم، تُضاف الآن تلك المواجهة بين الغرب والعالم الإسلامي التي تفسح المجال للاستغلال بجميع أنواعه: هذا ما يودّ أردوغان أن يتعهَّده على جبهات الحرب الثلاث، في سوريا وليبيا وناغورنو كاراباخ، كما في الأزمة المتفجرة في شرقي البحر الأبيض المتوسط، مثلما في مناورته صعوبات اقتصادية واجتماعية خطيرة في الداخل التركي.

هذا ليس جانباً مهملاً، فتركيا مدينة لشركاتها بأكثر من 330 مليار دولار، معظمها للبنوك الأوروبية. ابتزازات أردوغان لأوروبا، لا تتعلّق فقط باللاجئين على المسارات من بحر إيجة إلى ليبيا (حيث استولى على زوارق خفر السواحل الإيطالي)، لكن هناك أيضاً احتمال حدوث فشل مالي في الأفق. إنه يضغط على الأوروبيين ليدفعوا، كما فعلوا سابقاً في اتفاق اللاجئين، لكنه يعلم أنهم لن يفعل ذلك مرة أخرى، والآن يخاطر بفرض عقوبات من الاتحاد الأوروبي على انتهاك المناطق الاقتصادية الخاصة لليونان وقبرص في بحر إيجة. لذلك يلعب ورقة تعبئة العالم الإسلامي، بعد إفراطه في تعريض نفسه للمشاريع العسكرية باهظة الكلفة، والسَّير وحيداً - باستثناء حلفاء إقليميين نادرين- في طرق ومغامرات سياسية غير مأمونة العواقب. معضلة أردوغان تتجلّى في كونه عضواً في حلف الناتو، ما يجعله حليفاً لأوروبا والولايات المتحدة نظرياً على الأقل، لكنه في الوقت ذاته يرتبط بروسيا عبر علاقة صداقة-عداوة مثيرة للتأمل؛ الأمر الذي من شأنه أن يجعل العقدة التركية القديمة، "الرجل المريض"، غير قابلة للحل. لنتذكر، رغم كل الاختلافات الهائلة، أن صدام حسين غزا الكويت عندما قرر التوقف عن سداد ديونه المتراكمة لدى ممالك الخليج والبنوك الغربية بسبب الحرب ضد إيران.

في مثل هذه الأوقات يجدر تذكّر ما حدث في العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة من ناحية، والدول الإسلامية من ناحية أخرى. تاريخٌ معقد، لكننا إذا قصرناه على العقود القليلة الماضية، فثمة مراحل واضحة إلى حد ما. لم يُولد التطرف الإسلامي في صورته التي نعرفها الآن إلا من أزمة تلك الأنظمة العربية العلمانية التي كانت إلى حد كبير حليفة للغرب وتتغذّى بشكل كبير من التدخل العسكري الأميركي وتدخل حلفائها في الشرق الأوسط. في العام 1979، أطاحت الثورة الإيرانية الخمينية، الشاه، الذي اعتبرته الولايات المتحدة حارسها في منطقة الخليج. كان الردّ الغربي على الثورة الشيعية هو تسليح "عراق صدّام" الذي شنّ حرباً عدمية على إيران: ثماني سنوات من الصراع، ومليون قتيل. "الوحش" صدّام، الذي غزا الكويت العام 1990، لم يوقفه حينها سوى حلفاؤه القدامى (بالسلاح) والممالك السنية الخليجية (بالأموال)، وهذه الأخيرة ما زالت أوروبا تبيع لها الأسلحة بكامل طاقتها ويصنع معها ترامب وإسرائيل سلاماً "إبراهيمياً" مزيّفاً، ما يترك مظالم الشرق الأوسط، وأولها احتلال فلسطين، كما هي. الأوروبيون، أيضاً، بسبب عجزهم عن الفعل أو اختيارهم عدم تبنّي أي ردّ فعل جدّي، يستوردون الظلم التاريخي والبروغاندا الإسلاموية التعبوية.

في ديسمبر 1979، غزا الاتحاد السوفياتي أفغانستان، وانتهزت الولايات المتحدة الفرصة، بأموال باكستان والسعودية، لشنّ حرب على موسكو باستخدام المجاهدين، الذين أصبحوا في ما بعد طالبان والجهاديين، والذين خاضت الحرب ضدهم بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001. مع هؤلاء تحديداً وليس غيرهم، يريد الأميركيون اليوم صنع السلام، بينما يستمر مقتل المدنيين في أفغانستان. في العام 2003، قررت الولايات المتحدة، باعتماد أدلة كاذبة على وجود أسلحة دمار شامل في العراق، تدمير النظام البعثي العراقي، ثم طيَّفت الحياة السياسية العراقية، فاتحة الطريق أمام نشوء القاعدة ثم داعش أيضاً، أي إلى أسوأ تجسيدات التطرف الإسلامي، الذي كان العرب أكبر ضحاياها. من هناك، فُتح صندوق باندورا ولم يتمكن أحد من إعادة إغلاقه.

كانت المقتلة السورية وانتفاضات الربيع العربي في 2011 أحدث مثال على كيفية قيام الغرب والعالم العربي الإسلامي – ممثلاً بممالك الخليج التي تزوّد المتطرفين بالأموال تحديداً - باستغلال الجهاد والتطرف الإسلامي. الولايات المتحدة، بإيحاء من وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، أعطت أردوغان تفويضاً مطلقاً لإطاحة نظام الأسد المتحالف مع إيران وروسيا. كانت فرنسا نفسها متواطئة في خطة جلبت أكثر من 40 ألف جهادي من تركيا إلى سوريا، والآن يجب على باريس أن تدير عودة الجهاديين الفرنسيين من العراق وسوريا. قبل العام 2015، اتفق الأميركيون والأتراك والفرنسيون على إبعاد الأسد بكل الوسائل، بما في ذلك الاستعانة بالسفّاحين الإسلاميين، بينما كانت باريس وواشنطن ولندن قد أطاحت القذافي في ليبيا. هنا، مَن يزرع الريح يحصد العاصفة. والمدنيون دائماً يدفعون الثمن من دمائهم، كما هو الحال في نيس وفيينا وغيرهما، ممن يخافون الآن أيضاً من الوباء.

هذا ليس صِدام حضارات، كما يريد أحدهم أن نعتقد، لكنه صراع مصالح كانت في البداية متقاربة ثم متباينة. نعلم جميعاً أن فرنسا لديها مشكلات كبيرة، اجتماعية وصحية وسياسية، وبالتالي "يصعب تصديق أن تكون أولوية حكومة ما في ظل كل هذه الظروف هي التطرق للانعزالية الإسلامية، وما يقع داخل الأوساط المسلمة"، كما يؤكد الصحافي آلان غريش في حوارٍ نشر مؤخراً. في فرنسا العام 2018، كان هناك 26 ألف شخص يُعتبرون تهديداً للأمن القومي، 10 آلاف منهم متطرفون أو خطيرون. وقوانين "الانعزالية" الدينية ليست كافية لتحرير البلاد. المطلوب شيء آخر: مراجعة نزيهة للتاريخ الحديث، يتحمّل فيها الجميع، بما في ذلك فرنسا، المسؤولية. لكن مطالبة تركيا أردوغان اليوم بتحمل المسؤولية وحدها هو محض وهم.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024