مصر المتساقطة من ثقوب "ذاكرة العرب"

شريف الشافعي

الأربعاء 2018/11/14
للشعوب، كما للأفراد وأيضًا الحاسبات الآلية، ذاكرة يمكن بواسطتها تخزين البيانات، واسترجاعها، وهي تتنوّع بين قصيرة جدًّا، وقصيرة، وطويلة، بحسب سرعة استدعاء المعلومات ومدى السرد المفصّل في شرحها والقدرة على الربط والتحليل، فضلًا عن عوامل أخرى.

بيولوجيًّا، الذاكرة في حدّ ذاتها ليست بالقدرة الدماغية المذهلة والأمر الحيوي الخلاق، ما لم تكن بوابة للتأثير في الأفعال المستقبلية. إن استدعاء الأحداث والخبرات السابقة، لا يُرتجى من ورائه الكثير، إلا إذا جرى تحليل هذه الوقائع وتفنيدها وتمحيصها بغرض تطوير اللغة مثلًا، والعلاقات، والهوية الشخصية، ومجالات الارتقاء الإنساني المختلفة.

وفق هذا المنطق، فإن الذاكرة، في حالة افتراض عزلها، ليست بالمعالج المثالي المفجّر لقيمة البشر ووهجهم الاستثنائي، كما أنها تتأثر بالكثير من العوامل الداخلية والخارجية، ويسهل أن تتعرض للتلف الجزئي أو التدمير الكلي، وقد يعتري عملية حفظ المعلومات ضررٌ مادي مباشر، فتجد الخلايا العصبية ذاتها تتعامل مع وحدة مادية جوفاء.

هكذا، يمكن فهم تمسك الشعوب الواعية الواعدة بذاكرتها في سياق تفاعلاتها الدينامية مع الحاضر وتطلعاتها الطموحة إلى تشييد المستقبل، أما أن تتوجه الجهود الحيوية في المقام الأول صوب ترميم تلك الذاكرة وإعادة بنائها، مع إغفال سبل التقدم إلى الأمام، فهو بمثابة تصنيع منتَجات غير معروفٍ الهدف منها، وغير محدَّد مَنْ هو المنتفع بها.

"ذاكرة العرب"، برنامج جرت تسميته بالمشروع الثقافي الضخم، تضطلع به مكتبة الإسكندرية، بهدف بناء موقع في الإنترنت، هو الأكبر في التوثيق للمنطقة العربية، وفق إدارة المكتبة، إذ يضم مستودعًا رقميًّا للوثائق، وآخر للصور، فضلًا عن الفنون والآداب، وأرشيفات واسعة للصحافة العربية والسير الذاتية لأعلام العرب المعاصرين، وبيانات لا حصر لها تتاح للمستخدمين من كل حدب وصوب.

ليس خافياً أن مصر النهضة، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، التي كانت تمتلك إشعاعات العلم والفكر والثقافة والإبداع الفنون والإعلام، هي التي أسست ركائز هذا التراث غير البعيد المشار إليه بـ"ذاكرة العرب"، وذلك قبل أن تتآكل القوة الناعمة في عقود التراجع الأخيرة، ويتساقط التأثير المصري تدريجيًّا من ثقوب هذه الذاكرة العربية، في ظل حضور باهت في المستويات كافة، وانعزال كلي خارج الزمن.
يثير المشروع المصري، الجدير بالتقدير من حيث إمكاناته ومنجزاته الفعلية التي يتيحها، تساؤلات غير متعلقة بمحتواه وتقنياته وتطبيقاته بقدر ما هي متعلقة بفلسفته الغائية، فهل المأمول أن تصوغ اليد الجسورة الواثقة، مركزية مصرية جديدة تستقطب حولها العرب؟ أم أن المرجوّ يتلخص في أن تنسج اليد البائسة "وعاء" إلكترونيًّا يجترّ مفردات الماضي وإحداثياته لتتقلص الريادة المصرية في حيّز هذا المخزن المعلوماتي الحاضن لأرشيف العرب؟

من حيث التكييف الفني للمشروع، فإنه واجهة رقمية لإتاحة الموروث "كما هو". بوابة الإنترنت التي تستخدم أحدث البرامج، تقدم، بلُغة مزدوجة، صفحات تاريخ العالم العربي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها بحيادية، نقلًا عن وسائط ورقية وتقليدية، ككتب التاريخ والسير والوثائق والصور والكاريكاتير والقصاصات الصحفية والأفلام التسجيلية وغيرها.

في هذا الصدد، جرت بالفعل رقمنة مئات الآلاف من الوثائق والخرائط والمستندات والصور والمواد الصحافية من أخبار ومقالات ورسوم كاريكياترية وغيرها، وأتيحت الفهارس والملخصات ونوافذ البحث، وذلك تحت شعار "دعم الذاكرة الجمعية للشباب العربي"، بالتعاون بين مكتبة الإسكندرية وصندوق الأوبك للتنمية الدولية (أوفيد).

لقد رحبت القيادة السياسية بمصر بجهود توثيق "التراث" باعتباره مكونًا أساسيًّا للهوية الوطنية لدول الأمة العربية. أما إدارة المكتبة، فأسهبت في سرد الديباجات المطولة حول "النموذج المصري العالمي للسعي نحو حماية التاريخ وارتياد فضاء العلم وعصر التكنولوجيا".

ليس من شك في أن مشروع "ذاكرة العرب" حدث مثمر في الإطار الطبيعي للأرشفة الذكية وأوعية تخزين المعلومات والبيانات واستدعائها بصورة ميسّرة بتقينات عصرية، من جانب الباحثين والمستخدمين العاديين، ولربما يحيل المحتوى الضخم الحالي إلى ظلال ذاكرة أخرى أبعد، هي مكتبة الإسكندرية القديمة، كبرى مكتبات عصرها قبل 23 قرنًا، التي احتوت أكثر من 700 ألف مجلد في شتى العلوم والفنون والآداب والمعارف.

الأمر المختلف، ومحل التشكك، هو الدور المصري الراهن، المقترن بالإعلان عن مشروع "ذاكرة العرب"، والترويج لمثل هذه الأشغال، على جديتها وأهميتها بطبيعة الحال، بوصفها استعادة لمصر النهضة، الصانعة لـ"ذاكرة العرب".

الإسهام في تشكيل الذاكرة - كخلايا وأنسجة طازجة منفتحة على ما حولها من متغيرات ومستجدات ونقاط مضيئة وأبجديات تفاعلية - هو أمرٌ. وإعادة طلاء ذاكرة قديمة موجودة سلفًا بهدف تشغيلها معرفيًّا واستثمارها دعائيًّا، هو أمر آخر. فالفرق كبير بين اتخاذ الماضي منصة انطلاق، وإهدار البُعد التاريخي لجعل هذا الماضي نفسه مركبة حياة تصعد إلى القمر.

المتابع للمسار المصري خلال السنوات المنصرمة، على أصعدة عدة، يجد أن الآلية المؤسسية الأكثر سهولة للإعلان المراوغ عن مسايرة العصر لا تتكئ على الأخذ بالأسباب لبلوغ اللحظة، بل تعتمد على افتراضية مستحيلة، هي حذف وحدات زمنية من سلسلة التاريخ، ليحدث التقدم المنشود من خلال آلة الزمن الخرافية، وعودة اقتصاد طلعت حرب مثلًا، وإعلام ماسبيرو، وكاريزما عبد الناصر، وروح أكتوبر، وغيرها مما يُستدعى من سياقات متناثرة متنافرة، ويجري التسويق له كأيقونات إيجابية مطلقة.

تشير القرائن كافة إلى توجه سلبي نحو الإقامة الكاملة في الماضي، هربًا من معركة الحاضر الخاسرة. ومن خلال ادعاء إنجازات وهمية أو مبالغ فيها، تسعى القوة الناعمة المضمحلة إلى مواراة إخفاقاتها وانحسار إشعاعاتها في المواجهات الحقيقية الحاسمة، كقضايا التنوير والتعليم والمواطنة وتجديد الخطاب الديني والتصدي للإرهاب وغيرها.

في هذا السياق، يمكن استيعاب لماذا يجري التلاعب بالألفاظ والعقول إلى درجة الشطط في ما يخص توصيف مشروع "ذاكرة العرب". فبدلًا من تسميته باسمه المستحَق، كوعاء معلوماتي حديث وقيّم، أو مخزن بيانات عميم الفائدة، يتم توصيفه بأنه "النموذج المصري العالمي" في التحديث. وتهب أصوات مهللة للثورة المصرية في العلم والتكنولوجيا، والدور الطليعي في حماية التاريخ وصون التراث في الدول العربية، خصوصًا المتعرضة للنزاعات والحروب والتدمير.

إن ذاكرة العرب نفسها، وليس المشروع، حال تأسيسها ونموها ونضجها، هي في كثير من وجوهها، انعكاس للنموذج المصري العالمي بالفعل، في عصر النهضة، وقتما كانت مصر قِبلةً للعرب بغير دعائية جوفاء. أما عمليات رقمنتها، التي تجري الآن لمفردات "ثابتة"، فهي من الخبرات والثمرات المحسوبة لمكتبة الإسكندرية بلا شك، لكنها ليست الحضور المصري المتوهج بالريادة والقيادة والتأثير ونشر العلوم والثقافة والمعارف "المتجددة" كما يجري الترويج.

مشروع "ذاكرة العرب"، عنوان برّاق استثمره المضللون للإيهام بعودة مصر من خلال أوعية جديدة تحوي ذخائر قديمة، متجاهلين حقائق أولية تتعلق بالظرفية المقترنة بإنتاج مدخلات هذه الذاكرة في عهود التفوق، والإمكانية الحالية "الهشة" للتعامل مع ما تجود به الذاكرة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024