جيل المعلّمات

روجيه عوطة

الأربعاء 2019/01/23
ثمة شيء يقوله رحيل مي منسى وسهام ناصر، وقبلهما اميلي نصرالله أيضاً، وهو موت جيل من المعلمات اللواتي تركن أثرهن في كثرة من طلابهن الذين توزعوا في مؤسسات عديدة، من المدرسة إلى الصحافة الثقافية، مروراً بالجامعة والتلفزيون والرواية والخشبة المسرحية. إذ إن المعلمات الثلاث، هن من اللواتي شاركن في إقلاع هذه المؤسسات، وهذا، مع إقلاع  لبنان، الذي سرعان ما هبط إلى حربه، وعلى الرغم من ذلك، أبقت كل معلمة منهن على حبها لبلادها، الذي ساوى اعتقادها بمشروعه وريادته. 

فلا يمكن تذكر منسى من دون تذكر حديثها عن "الوطن وقداسته"، ولا يمكن تذكر ناصر بلا تذكر تطلعها إلى "المسرح الوطني"، مثلما لا يمكن تذكر اميلي نصرالله من دون تذكر عبارتها "أنا فخورة ببلدي" التي هاتفت بها ميشال عون حين كرّمتها جمهوريته. فقد تمسكن، وكل واحدة منهن على نحوها السياسي وغيره، بمشروع البلاد، الذي، وحتى حين انتهى، واظبن على الدعوة اليه.

وهذا فعلياً ما جعل من مواظبتهن تلك، أكانت التدريس أو الكتابة، تنطوي على أمرين. الأول أنها، وهذا ما كانت تردده منسى دائماً، مجرد حنين. والثاني أنها منفصلة عما يدور في البلاد بعدما صار مشروعه في خبر كان. بالتالي، ظلت هذه المواظبة تدور في زمنها، اي في زمن الدولة وحربها، زمن يمينها ويسارها. ففي حال أطلّت المعلمات منه على أي زمن بعده، يبدو أنهن معالِمَه، معالمُه التي لا تزال تتمسك به بعد زواله.

عرفت المعلمات هذا الزمن ومشروعه في وقته الذهبي، وقد كن من طبقاته الوسطى، ومن نخبه، وقد أخذن على عواتقهن تشييده والتنشئة عليه لكي يغدو لبنانه "منارة" ولاحقاً "المختبر". وحتى بعد كسوفه، رأين في مواصلتهن الإنشاء والتنشئة، سبيلاً إلى إعادة إطلاقه من جديد، أو على الأقل الحفاظ على مكتسباته المرتبطة بالحريات على عمومها. وجدت المعلمات فيه الزمن الأول والأخير، والمشروع الأول والأخير، وحتى عندما كن يشعرن بأفوله، وهذه حال ناصر بعد الحرب على سبيل المثال، فسرعان ما كن يستكملن اعتقادهن به، ويقلبن هذا الاعتقاد إلى دفاع عنه أيضاً. الصحافة، الرواية، المسرح، كل هذا من أجل فكرة لبنان، ومن أجل الا يعود إلى حربه على الأقل.

لم تكن معركة المعلمات تلك سهلة، وقد ضاعف من صعوبتها أنهن نساء. فأن يقمن بشق طريقهن في مجتمع تقليدي، ذاهبات إلى المشاركة في إطلاق مؤسسات دولته، والمشاركة في شؤونها، فهذا ما يجعل من تجاربهن تجارب مميزة، لا تبتعد عن كونها صراعات دائمة مع النفس ومع المحيط، على قول نصرالله. ونتيجة ذلك، كن من وجوه الحركة النسوية في لبنان، ومن طليعتها التي كافحت من أجل تحصيل الحقوق البديهية، كالمساواة والتعبير وغيرها. على أن هذه الحركة ظلت مرتبطة بزمن ذلك المشروع الذي اعتقدن به، وبالتالي، بدت لاحقاً منقطعة عن الزمن الفعلي للنساء، وعن قمعهن في المؤسسات اياها.

إنه جيل يرحل إذاً، جيل اختبر سلطة المجتمع التقليدي، وما كاد يتحرر منها حتى اندلعت الحرب، فتحول تحرره الى محافظة عليها، ووقوف على حطامها، وتفتيش عنها، "الشعب بكون عنده بيّ وهالبيّ هو الدولة" (م. منسى). وهذا الجيل ترك خلفه طلاباً، تربوا في مشروع المعلمات وزمنهن، وذلك بعد انتهائه، فورثوه ميتاً ومتفتتاً، ولم يدروا ماذا يفعلون به. لقد وجدوا في ذلك الجيل جيلاً بعيداً وغريباً، ولم يكونوا أقل بُعداً وغرابة منه أيضاً، وجدوا فيه جيلاً مأزوماً، ولم يكونوا أقل تأزماً منه أيضاً، وبعدما نقل فكرته عن لبنان والرواية والمسرح والإعلام اليهم، تكشفت عن كونها ما عادت تصلح، لكنهم، ومع هذا، لم يحجموا عنها. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024