بول شاوول... الطاعن في الشعر

بشير البكر

الإثنين 2020/09/14
بول شاوول واحد من معالم ثقافية باقية في بيروت، رغم كل النكسات التي عرفتها المدينة. وشاهد على التحولات التي عرفتها منذ نهاية الستينيات، حين وصلت ارتدادات ثورة الطلاب في فرنسا/أيار 1968، ومن بعد ذلك سبعينيات الحرب الأهلية التي تلاها الاجتياح الاسرائيلي العام 1982، وما تبعه من انهيارات أوصلت البلد إلى ما هو فيه من خراب. وعبر هذه المسيرة الطويلة كان بول صحافياً وشاعراً ومترجماً وناقداً مسرحياً يسجل حضوره الخاص والمختلف، ولم ينسحب أو يغادر المدينة في أي لحظة، وبقي يحرس شارع الحمراء منتقلاً من مقهى إلى آخر. كلما اغلقوا مقهى، وجد آخر جديداً يتبعه المثقفون إليه، من "هورس شو" إلى "الاكسبرس" و"مودكا" و"سيتي كافيه" و"ليناس"..الخ، هناك سيرة طويلة مكتوبة بالحبر والانتظار الدائم والأمل الذي لا ينفد.

وبدأت سيرة الشعر مع الحرب الأهلية في لبنان. كان أول عمل "أيها الطاعن في الموت" (1974)، وتلاه "بوصلة الدم" العام 1977 في ذروة الحرب، والذي قدم شاعراً جديداً كسر الإطار الجاهز، ووضع القصيدة أمام امتحان مختلف وتجربة جديدة هي الحرب. قصيدة سياسية، لكنها ليست منبرية، وهذا ما ميز كل كتابات شاؤول اللاحقة. شاعر يتوجه إلى نفسه قبل أن يتوجه إلى الآخرين، ولهذا نجح في أن يبقي نصه الابداعي، وحتى مقالته السياسية بمنأى عن المباشرة السياسية، ويعود ذلك إلى علاقته بالثقافة الفرنسية، وخصوصاً الشعر الفرنسي الذي يعرفه معرفه جيدة. ترجم منه مختارات شعرية، وكتب فيه "كتاب الشعر الفرنسي الحديث". وكلما قرأت بول، مرّت أمامي صورة هنري ميشو، الشاعر البلجيكي الفرنسي، الشاطر في التسرب بين الممرات الشعرية من دون أن يتمكن أحد من التقاطه متلبساً بالقصيدة.

بول مختلف عن جيله من الشعراء اللبنانيين في أنه خاض مبكراً تجربة سياسية ثقافية في وسط اليسار الطلابي، وكان من بين مؤسسي وقادة "حركة الوعي" التي ولدت في الجامعة اللبنانية، لكنها امتدت إلى طلاب الثانويات. وكبقية الذين شاركوا في قيادة هذه الحركة، لم يلتحق شاوول بالأحزاب اللبنانية، وظل مستقلاً، يلعب دوره من موقعه كإعلامي وكاتب ومثقف لم ينخرط في الهستيريا الطائفية. وحين تعرفت عليه في دمشق، بعد أيام من صدور "بوصلة الدم"، ظننت أن هذا الشاعر هرب من بيروت مثل عدد من الكتّاب والصحافيين والفنانين، لكنه جاء في زيارة للقاءات من أجل مجلة "المستقبل" التي كانت تصدر في باريس، ويتولى شاوول القسم الثقافي فيها. وحين استفسرت منه عن سر إصراره على البقاء في بيروت وعدم الرحيل إلى باريس كبقية الزملاء، قال لي: لا أترك بيروت أو بيتي في منطقة الحمرا. وذات يوم تواعدت مع بول في مقهى "الاكسبرس"، وكان ذلك في صيف 1978، وذهبت إلى هناك فوجدته مع قليل من رواد المقهى بينما كانت القذائف تنهال على بيروت بسبب قيام حاجز للجيش السوري في منطقة الحازمية بتوقيف قائد "القوات اللبنانية" بشير الجميل، وأتذكر أن شاوول تحدث عن هذا الشاب الماروني ومشروعه التدميري والمراهق بحس نقدي عال.

طيلة السنوات اللاحقة بقيت التقي شاوول بانتظام، وأتابع ما يكتبه حتى خروجي من بيروت العام 1982، لكني التقيته في تونس وباريس والدار البيضاء في مهرجانات ثقافية. ومن خلال متابعتي له، يمكن لي تسجيل ثلاث نقاط. استمرار شاوول ومواظبته على الكتابة الشعرية، وكان ينقطع في بعض الأوقات لزمن طويل، لكنه يعود غزيرا، ويطرح كتباً عديدة كما حصل في العام 2010. والنقطة الثانية هي الكتابة الصحافية الثقافية والنقد المسرحي، ويكاد يكون الثاني بعد عصام محفوظ، الذي صنع تراكماً في هذين الجانبين. والثالثة هي الالتزام السياسي الأخلاقي، والمعارضة من هذا الموقع، وهنا يمكن تسجيل مسألة خلافه مع ميشيل عون العام 2008 الذي رفع دعوى قضائية ضد الشاعر وقاده إلى المحكمة بسبب مقال في صحيفة "المستقبل" ينتقد الجنرال الذي "تخلى عن جنوده في أرض المعركة".

وفي آخر لقاء تم بيننا قبل عشر سنوات، وكان في مقهى "ليناس" الكائن في نهاية شارع الحمراء قبل مفرق شارع السادات، كنت أجده يجلس في أوقات الهدوء الصباحي الباكر يصفن طويلاً، حتى يظن الناظر اليه من بعيد، انه لم يبارح المكان منذ زمن طويل.

يستهل شاوول اللقاء بالقول: "كما ترى مازلنا نعيش في بيروت. ميزة هذه المدينة انها عصية على أي حكم شمولي، أنا لا استطيع العيش في ظل الرأي الواحد، وهذا الشارع (الحمرا) هو آخر رئة من الرئات العربية التي يمكن التنفس منها اليوم. قلب بيروت في هذه المقهى، هنا تجد رواداً من كافة الطوائف والأحزاب. هي عبارة عن نموذج لبنان التعددي الذي يعني الديموقراطية. أنا متمسك بهذا الهامش منذ أربعين سنة. تعاقبت على هذا البلد عشرات الميليشيات والحروب وعمليات القتل والتهجير، ومع ذلك بقيت هناك مساحة فكرية واجتماعية، لا يمكن الغاؤها بعدما دفع اللبنانيون ثمنها".

أخذنا الحديث فوراً إلى حال بيروت الثقافية التي يرى فيها بول آخر المساحات النابضة، رغم أن الحروب تقتل الثقافة ولا تحييها. منذ العام 1969، مرت على هذا البلد حروب عديدة مدمرة. الاقتصاد تضرر كثيراً، والطائفية عكرت الفضاء الثقافي، لأنها نوع من الشمولية القمعية، ولذا حصلت تراجعات أساسية في بعض الفنون الانتاجية، كالسينما والمسرح والتلفزيون. منذ نهاية السبعينات انهارت كل الافكار التي وصلتنا، أو التي ناضلنا من اجلها، من يسارية وقومية وليبيرالية. ولا أبالغ إذا قلت ان العالم العربي يعيش اليوم بلا أفكار، والناجيان الوحيدان هما الشعر والرواية. نجا الشعر لأن المجتمع لا يحتاج اليه، ولا أقصد هنا الشعر السياسي، بل الشعر التجريبي الذي لا يتوجه إلا إلى نفسه. الشعر لا يحتاج الى رأسمال لكي يزدهر، يمكن للشاعر أن يمضي سنوات في كتابة قصيدة ولا ينشرها، وهو لا يحتاج سوى لأقلام وأوراق، وحين ينشرها فإنها لا تبيع عادة اكثر من مئة نسخة. أهم شاعر، باستثناء محمود درويش ونزار قباني، لا يبيع أكثر من 200 نسخة.

يصف شاوول هذه المرحة بأنها "انتقالية، ناقصة، خطيرة جداً". هو من جيل واجه في السبعينات قمع السلطة والدولة، لكنه عانى لاحقاً من قمع المجتمع الطائفي والمذهبي والأصولي. كانوا يتظاهرون في السبعينات، ويهتفون ضد قهر السلطة، أما اليوم فإن القهر يأتي من مكان آخر. فالمجتمع العربي الذي كان خارجاً في الخمسينيات من الفكر التنويري، انكفأ اليوم نحو الماضي والتعصب. وحتى بيروت مدينة الكتاب والجريدة بإمتياز، لم تعد كما كانت عليه. وكان يصدر فيها نحو ستة آلاف عنوان في السنة، في ميادين متعددة وضمن استراتيجية توازن. اما اليوم فهناك خلل لصالح الكتب الماضوية، عدا عن أن بيع الكتب تراجع إلى نحو 60 في المئة. وفي ما يخص الجرائد فهي تبقى على المستوى المهني في طليعة الصحافة العربية، لكن الصحف أغلقت، أو تراجعت مثل "السفير" و"النهار".

حين تحدثنا عن الشعر، لفتني ان شاؤول لم يعد يستخدم المفردة، وصار يستعمل تعبير نص، وفي رأيه لم تعد هناك مقاييس ثابتة، "وكما ترى فقد وصل الشعر الى اماكن غير متوقعة. أتابع ما يصدر في فرنسا على سبيل المثال، و ألاحظ أن الشعر بلغ مصافات يتعذر معها تصنيفه في خانة محددة، لذا استعمل تعبير نص، قد يحلو للبعض أن يعتبره شعراً وبعض آخر العكس، الشاعر لا يعرف ماذا يكتب سلفاً، لديّ ستة كتب، كل كتاب هو نص خاص له عالمه". وفي تلك الفترة، كان شاؤول يستعد لإصدار ستة كتب أحدها عن" السيجارة"، وكتاب آخر عن الحديقة، والثالث عن الموت، والرابع عن الحب، وهكذا.. الكتابة مشروع، وهو ليس ممن يكتبون كل يوم. كل كتاب لديه يختلف عن الآخر، ليس لديه كتاب يشبه الثاني. ويعلق على هذا بقوله "هناك شعراء يكتبون كتاباً ناجحاً، ثم يقلدونه طيلة حياتهم، يستريحون الى نمط ما، لكن هذا يحد من الحرية. وأنت تعرف أن هناك شعراء كتبوا قصيدة واحدة، لكنهم خُلّدوا من خلالها. وربما يصدم البعض اني اعتبر محمود درويش الاستثناء الوحيد، الذي ظل يعمل على تطوير نفسه حتى اقترب من قصيدة النثر".

لا يخشى شاوول من تطرف رأيه تجاه الشعر "أنا من المؤمنين بالورشة، وبهذا المعنى تأتي ضرورة مجلة تقوم على التجريب، وفي رأيي لا منقذ للشعر إلا من هذا الطريق. البعض يقول أن الشعر مات في العالم، لكنه في أجمل مرحلة ذهبية، لسبب بسيط، وهو أنه بعد رحيل الايديولوجيات وضغط القضايا الكبرى، بات الشعر أكثر حرية، وهذا يتيح مجالاً أكبر للتجريب مفتوح الآفاق على الحرية المطلقة، أن يلتزم الشعر بقضية سياسية، فإن ذلك يجب ألا يخضعه لمقاييس خارجية عن القصيدة، وبالتالي لا أرى ضيراً في كتابة قصيدة سياسية بحس تجريبي، "بوصلة الدم" التي صدرت العام 1977 قصيدة سياسية، لكن لا علاقة لها بالمنابر، الالتزام شيء والقصيدة شيء آخر، تستطيع ان تكتب عن تجربتك مستفيداً من السينما والمسرح وكافة التقنيات".

شاوول من المؤمنين بالتجريب، في كل كتابة جديدة يرمي الكتب السابقة خلفه. جرب أشكالاً كثيرة. التجريب حل محل النظرية، لأن النظرية الجاهزة تضعف التجريب، وهذا هو السبب الكامن وراء مقتل المدارس الشعرية كالسوريالية والدادئية. التجريب هو "العماء"، حيث لا تعرف الى اين تذهب، والرائع فيه أنه يحتمل الفشل والنجاح، القصيدة الجاهزة التي يكررها شاعر ما، تلغي حرية الاختيار، هي مكتوبة قبل ان تكتب بحسب قوانين معينة. "ليس الفشل أن تكتب نصاً لعام او عامين، وتكتشف أنك فشلت فترميه، الفشل هو أن مقياسك للنص لا يتجاوز المقاييس الجاهزة. قد تنقطع فترة طويلة، لكنك في هذا الوقت تهيء أدواتك الجسدية للخروج من الصمت، لأن أسهل شيء للشاعر أن يقلد نفسه. أستطيع أن أكتب نصاً مثل "شهر طويل من العشق" خلال يومين، لأن اللعبة جاهزة، أفضل أن أقلّد غيري على أن أقلّد نفسي، وغياب الحاجة الاختبارية هو من العوامل التي ساهمت في تسكين تجارب كثيرة".

سواء اتفقنا مع رأي شاوول أم اختلفنا، فإن الاطمئنان الى الذات أمر مرعب، ولو نظرنا الى تجارب بعض الشعراء الأساسيين، لوجدنا ان ديوانهم الأول افضل ما عندهم، يكتبون نصاً جيداً وينامون على حريره، لأن التكريس يأتي من المؤسسات الجاهزة، وهذا يؤثّر في كتابة الشعر. والتجريب هو من قبيل التمرد على كل سلطة، مالية أو لغوية أو جماهيرية، فالنص التجريبي لن يلبث أن يؤدي إلى بلورة حساسية جديدة وتقبّل جديد، يتجاوز الخمول والبلادة والاسترخاء، وشاؤول لا يعتبر قصيدة النثر نهاية المطاف: "هي مطاف. أنا من انصار التجريب حتى داخل قصيدتَي العمودي والتفعيلة".

كتب ستة كتب في الوقت ذاته، وفي بعض الاحيان كان يعمل على ثلاثة منها في الفترة ذاتها: "جربت ذلك، ولا أعرف إن كنت نجحت أم لا. كتبت "أوراق الغائب" على مدى ست سنوات ولم أكتب غيره، الآن كأني تفجرت في جميع الاتجاهات، وهذا أمر يحتاج إلى طاقة ضخمة. هي تجربة ممتعة حتى لو كانت نتيجتها الفشل، كناطح صخرة".

يكتب شاوول في انقطاع عن المجتمع والاختلاط مع الناس، او المشاركة في المناسبات الثقافية والاحتفالية، ولا يستهويه شيء من ذلك، حتى توقيع كتبه، أمر يرفضه، يترك الكتاب ينزل الى عزلته الأبدية وموته الجديد ويختار وحدته وحريته لوحده، وكان يعتزم توزيع الكتب الستة خلال شهر، بعدما تلافى معرض الكتاب. وبالتالي هو في قلب الثقافة، لكنه بعيد من المثقفين، والكتابة مثل السيجارة هي آخر ما تبقى له.

لديه اصدقاء يأتون للقهوة، لكن تحرره من الاعتبارات، أبقاه الى جانب الكتابة. لا يعني ذلك انه منقطع عن المجتمع وحركته، بل هو في قلبه "لكن لكي تتكلم عن المجتمع سياسياً، يجب أن تبتعد عنه بالتوافق، وليس بمعنى المشاركة".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024