أوراق النعي في باب الوفيات... انقلاب ميزان النسب

وضاح شرارة

الجمعة 2019/08/09
خبر الوفاة، أو "ورقة" النعي في الصحف وعلى أبواب المباني ومداخلها، لا يقتصر على إعلان الواقعة، ونشرها على ملأ الناس مجردة من "محسنات" تعلق بها وتتممها. فكتابة الخبر، على ما هي حالها اليوم في الصحف اليومية (اللبنانية)، تجري على مثال أو مثالات يتقيد بها معظم الناعين من أهل المتوفين. والمثالات هذه هي ضوابط ومعالم اجتماعية واعتقادية يتشاركها أهل "الفقيد" وجمهور المعزين المتوقعين، بادروا إلى التعزية أم تبلغوا الخبر المؤسف وذكروا الراحل في صلواتهم أو "خواطرهم"، على قول إحدى الورقات.

التعريف
وتكاد كتابة الوفيات أن تكون فناً أو باباً يتوسل بلغة دقيقة ويلتزم العبارة عن معانٍ متعارفة وجامعة. ولعل مرتكز هذه اللغة ومناطها هو تعريف المتوفي التعريف الوافي حين يقر في مثواه المفترض أخيراً، وينقلب من السعي إلى الثبات على صورة وهوية. ويتولى النعي "الجواب" الشافي عن سؤال الماهية: من كان الرجل (أو المرأة أو الولد)؟ وذلك على النحو الذي يرى عليه مجتمعه، أي أهله وناسه ودوائر رواحه ومجيئة وإقامته، الجواب. ولا تتردد أوراق النعي، في باب الوفيات (والباب الصحافي صورة عن الأوراق التي قد يلصق بعضها على مداخل المباني وجدران الجبانات)، في إجماعها على جواب واحد: الراحل الذي يشيع هو عقدة قراباته المعاصرة والمتحدرة منه، وهو مفترق الأنساب التي تمت إليه ويمت إليها إما بالولادة وإما بالمصاهرة والحلف.

وتمثل قراءة إحدى الأوراق المفصلة والمستفيضة على الزعم هذا. ولكن الورقة، قبل التمثيل أو التصديق، تصوِّب ما أذهب إليه. فمدخل كل نعي هو فعل إيمان ديني يصل الأولى بالآخرة، والمبتدأ بالمصير، وذلك بالألفاظ والكلمات التي يتوارثها أهل المعتقد. وعلى هذا، ففاتحة النعي تجهر المعتقد أو العقيدة ومذهبها في الخلق وفي الحياة والموت، وفي النشوء والفساد، على قول كلامي أو متكلم. فتتصدر الورقة البسملة. وقد تتصدرها "إنا لله وإنا إليه راجعون"، أو جهر التسليم "بمزيد من الرضى والتسليم بمشيئة الله تعالى". وقد يُتبع هذا بالآيات 27-29 من سورة الفجر (يا أيتها النفس المطمئنة...). والمسيحيون يصدرون النعي في الأوراق، وليس في أخبار الباب الصحافي، بـ"من آمن بي وإن مات فسيحيا"، أو بـ"رقد على رجاء القيامة"، تحت صليب عارٍ خُطّ بحبر أسود.

الشبكة
ويتقدم المدخل الاعتقادي والمذهبي، الأعم، المدخل النسبي، الألصق بالجزء "القبلي" أو "القومي" من (أمة) المؤمنين، وبالفرد المنعي. وقلما يستغني نعي، أو تذكير بذكرى وفاة سنوية، عن مثل هذه "الفاتحة" أو العتبة. ويستدرك مكان العزاء، صالون الكنيسة أو الحسينية أو المسجد أو مركز الجمعية، على الإغفال أو الاستغناء ويعوضه في الأحوال كلها.

فباب التخصيص في التعريف هو باب النسب والقرابة والمصاهرة. والحق أن الباب هذا هو شبكة، على شاكلة شبكة العنكبوت، ويتوسطها اسم المتوفي "إلى رحمته تعالى" على ما يرجو أهل المتوفي. وهم أنفسهم كتبة النعي وأحد فروع المنعي القريبة واللصيقة، والمتوجهون على الجمهور الأوسع بطلب العزاء وانتظاره وتلقيه، لقاء إرجائهم العزاء في أيام سابقة إلى طالبيه ومنتظريه ومتلقيه. واسم المتوفي المنعي هو واسطة الشبكة وخيوطها. وتسبق الاسم الثلاثي على الدوام، صفة صاحب الاسم. فهو أستاذ (أستاذة)، أو حاج (حاجة)، أو دكتور، أو مهندس، أو صاحب رتبة عسكرية، أو شيخ أو سيد (على المعنى الإمامي)... أو مزيج من هذه: الحاج الدكتور العميد المهندس... والنساء وحدهن تقريباً يخلون من الألقاب ما عدا لقب الحاجة إذا حق.

وأبواب التعريف التالية على دوائر، الأقرب فالقريب فالأبعد، تنزل على ترتيب متين. فالاسم الثلاثي ينسب صاحبه إلى والده ابتداءً. والمرء (المرأة) هو ابن والد أولاً، على نحو ما هو في الاسم فلان(ة) بن(بنت) فلان. وهو، في المرتبة التي تلي البنوة، زوج(وهي زوجة). ويدون اسم القرين، رجلاً أو امرأة، في المرتبة اللاحقة المباشرة. فالبنوة المُعلمة، عليها مبنى الأبوة اللاحقة، ودوام التعاقب المتجدد والدائري إلى قيام الساعة. وفي نعي الرجال الأزواج، ونسبتهم إلى آبائهم، قد يغفل اسم والد المرآة الزوجة. فيقال: زوجته فلانة، ويقتصر تعريفها على عائلتها أو شهرتها، من غير اسم أبيها. ويضمر هذا الإغفال قيام الزوج مقام الوالد الأب في التعريف النواتي. وقد يكون هذا أثراً من آثار "الحداثة" في الأحوال الشخصية. وبعض النساء ("الكاتبات") يكتب اسمهن فيضفن شهرة الزوح الى شهرتهن الأولى، أي شهرة الأب الوالد.

فإذا "تقرر" أو أُثبت قران الذكر والأنثى جاز، طبيعة وشرعاً على ما ينبغي، أن يتحدر منهما الأولاد. وحل المرتبة الثالثة من الترتيب النسبي، بعد نواة الـ"أنا" (المتوفية أو المتوفي) على قول الأناسين (إيغو)، والزوج المكمل، والأولاد. وهؤلاء أبناء، أولاً، وبنات، ثانياً. ويتقدم الأبناء البنات، بديهة، ويرتبون ويرتبن على معيار السن إنما داخل لائحتين مستقلتين: الأبناء أولاً والبنات ثانياً.

تقديم وتأخير
ويلي اسمَ الابن، على المثال النواتي الأصيل، اسمُ زوجه (زوجته)، وأسماء أولادهما، إلى آخر عنقود الذكور. وبعد أسماء الأبناء في لائحة واحدة ومتصلة، أسماء البنات وأزواجهن وأولادهن. و"تنتهك" كتابةُ النعي الترتيب الجنسي، بتقديم الذكور على الإناث، حين تبلغ مرتبةَ الأحفاد. فهؤلاء يُذكرون على حسب ولادتهم، فتقدم الأنثى ويؤخر الذكر. وعلى خلاف حمل الأولاد على اسم الأب المنعي وحده أو الأم المنعية وحدها، فيكتب: أولاده في الحال الأولى وأولادها في الثانية، ينسب الأحفاد إلى والديهم الاثنين، فيقال: ابناهما، وليس ابناها إذا كانت امرأة أو ابنة... وقد يكون "الانتهاك" المزدوج هذا كذلك من ثمرات نازع حداثوي إلى بعض المساواة، فيُشرك الزوجان في الأبوة (!)- الأمومة (؟) ويرتب الأولاد على معيار الولادة، ويضرب صفحاً عن الهوية الجنسية موقتاً. وفي الأثناء تحفظ الألقاب كلها: فالاستاذ لا يحيد عن أستاذيته، ولا ينزل الدكتور أو الحاج أو المختار أو أمين السر أو رئيس الجمعية قيد أنملة عن موجبات لقبه.



ويدخل التفريع مع الأحفاد والحفيدات، وجواز زواجهم وزواجهن إذا بلغ المتوفي عمراً مديداً، مرحلة متقدمة. وقد يولد الأحفاد والحفيدات من أكثر من زواج واحد. ويرى هذا في مرآة أسمائهم وأسمائهن أولاداً مختلفي الشهرة ومتحدرين من رحم واحد (وهذا لا يلاحظ في حال الابناء الذكور). ويتزوج الأحفاد والحفيدات في عائلات وأسر وبلدان وقارات متفرقة، وعلى منوال شبيه من الاختلاف. فإذا بلغ خبر النعي ذيله، وعمد إلى جرد الراضين بقضاء الله والآسفين من عموم العائلات في سجل واحد، أحصى نحو عشرين "عموم" عائلة في أقطار الأرض. وزاد "أهالي" مدن وأقضية من غير استثناء ولا تفريق.

والأبواب التي مرّ إحصاؤها لا تستوفي القرابات والأواصر كلها. فبعد الأبناء والبنات، والأصهرة والأحماء، تجرد بعض أوراق النعي فروعاً أخرى: الأشقاء وعائلاتهم، والشقيقات وعائلاتهن. وقد يخص أبناء الأشقاء والشقيقات، إذا ارتقوا مرتبة مجلية، بباب أو درجة. ويفضي التوسع إلى العدلاء، وأشقاء الزوجة، وشقيقات الزوج. وليس هذا رائجاً. ويلاحظ أن التوسع في القرابات والأنساب، وتفريعها نزولاً إلى أحوال أولاد الأحفاد والحفيدات الشخصية، يجزي مكانةً اجتماعية مفترضة تُدل بالعدد والفروع، ويقوم العدد والفروع دليلاً عليها.

ولا ينبغي إهمال وجه آخر، مستقل عن الوجه النسبي (المختلط أصلاً على ما رأينا)، من النعي أو التعريف الاجتماعي الأساسي، هو "النعي" المهني والعلائقي، إذا جازت العبارة. فبعض أهل المناصب، في السلك الاقتصادي أو الإداري أو في الحقل الخيري على الخصوص، يكرمهم أقرانهم في السلك أو من يقر لهم بالفضل. وهذا الباب يختلف عن باب النسب والقرابة والصهر والحلف، ويُقرن به من طريق المكانة. وهو يتضافر مع النسب على إعلاء المكانة وإظهارها، ولكنه رافد ثانوي من روافده المحدثة والمدينية على وجه التخصيص.

الذراري قبل الآباء
وهذا ظاهر في بنية الأنساب التي يصدر النعي عنها ويثبتها في آن. فالنعي يصدر عمن هم أقرب "الأرحام". وهو لا يصدر، تالياً، عن مراتب العائلة أو مشايخها، على ما هي الحال في وفيات العشائر أو القبائل، حيث لا تزال هي قائمة وفاعلة. وقد يكون هذا قرينة على "قلب" الأنساب رأساً على عقب، من دون أن يخرج عن منطقها. فلا يتبوأ المرتبة الأعلى والأشرف، من النسب الجزء الذي يعود إلى الآباء والأجداد، ويحصيهم و"يُصعد" فيهم. والتعريف بالمتوفي وباسمه لا يتوسل غالباً بغير الأب الأخير والمباشر، ويستفيض فوق ما يستفيض وأكثر ما يستفيض بالذرية القريبة، الأولاد والبنات والأحفاد والحفيدات، وبشبكتها الأفقية. وعليه، فـ"جهاز الأنساب" الراجح هو النسل الآتي الذي يستقبله المنعي او تستقبله المنعية.

وتوجه النسب، والتعريف به، إلى المستقبل وإلى المولودين المباشرين من قران زوجين، وقصره الآباء والأجداد على الحلقة الأخيرة (والمرأة، الأم والجدة، تستغني عن هذه الحلقة وتلتحق غالباً بزوجها "المعاصر")- انعطاف بارز وحاد في تاريخ العامل النسبي والأهلي. والعامل الأول في هذا الانعطاف هو التمدين، إما نزوحاً وإما انتشاراً وعدوى. وورقة النعي، ونشرها في الصحف، واليوم (منذ عقدين) على مواقع الشبكة، أمارة على ضعف لحمة الأسرة وقوامها العصبي وتشتت إقامتها ومنازلها ومصالحها وأعمالها وزيجاتها وأواصرها في أنحاء متباعدة، المدينة المحلية أو الاقليمية والدولية صورتها وإطارها. ومكانة الأصول النسبية، الآباء والأجداد، ركنها تاريخ ديني "للخليقة". وإذا "كذب النسابون"، على ما جاء في الأثر، فالأب الموثوق والثابت وغير المجروح هو الأب بالمعتقد والإيمان والنبوة. ويصل النسب على المثال الديني، الجماعة بعالم الغيب من طرفيه: "إنا لله وإنا إليه راجعون". فإذا ضعف التحدر من المبتدأ، واستند التعريف إلى الذرية المباشرة، غلبت كفة "الدنيا"، العالم الدنيوي والزمني، كفة الغيب. وخطت "العالمانية" خطوتها الأولى، ونحن نزعم أننا لا نزال "آباء" و"أخوة" أولاً وأحياناً آخراً إذا جمعتنا المجامع. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024