رثاء الذات ومخاطبة الموت في أغنية

يارا نحلة

الأحد 2019/08/25
تتعدّد الطرق التي يواجه بها البشر موتهم المحتّم والوشيك. الإكتئاب واللجوء إلى الدين هما من الأساليب الأكثر شيوعاً. إلا أن البعض يختار سبيلاً أكثر شجاعة لمجابهة الموت، كالغناء للموت، وعنه. فمن بين الفنانين، من يرفض الرحيل بصمت وهدوء، فلا يمنعه المرض والسقم من تقديم عرضه الأخير؛ شهادته الحية عن خبرة الموت.



ليونارد كوهين: الإيمان الخافت

في ألبومه الأخير، يتحضّر ليونارد كوهين لمخاطبة ربّه ومواجهته. كوهين الذي عاش حياته مؤمناً، يظهر في اللحظة الأخيرة معاتباً ربّه ومشهراً عليه التحدّي. يمثّل عنوان الألبوم "You Want It Darker" استعارة لإيمان كوهين الذي خفت نوره مع دنو الموت ليستحيل ضعفاً ورهبة. يتحدّى الله بقوله "إن كنت صاحب اللعبة، فأنا خارجها".

يلوم كوهين الله على ألم الكون، وألمه الخاص، هو الذي يتآكل جسده بالمرض والشيخوخة. يلومه على ممارسة القتل وعدم تدخّله لإيقاف العنف والمعاناة، بدءًا بمعاناة المسيح ووصولاً إلى محرقة اليهود. يتأرجح كوهين بين عتابه وبين استسلامه، فيردّد برفقة الكورس الترنيمة اليهودية "Hineni Hineni" أي "أنا هنا"، وينهي بالرضوخ قائلاً "أنا جاهز يا الهي". بحساسيته المألوفة، يعرّي كوهين ضعفه وهشاشته، إلا أنه يرفض الإنكسار. يخرج صوته، من أعماق حنجرته، هادئاً وجهيراً. يكتم أنين الألم، لا ينتحب ولا يصيح. ويقول ببساطة "سأترك الطاولة، سأخرج من اللعبة".



في أغنية "Steer Your Way"، يتخلّى كوهين عن الحياة وإهتماماتها الدنيوية. يخلع عنه مبادئ لطالما تمسّك بها، ويعلن تشكيكه "بحقائق الأمس"، وأوّلها فضيلة الخير. في لحظة الرحيل، يلحد كوهين بالحياة وكل ما فيها، بإستثناء الألم. الألم هو الحقيقة الوحيدة، بحسب شهادة رجل عانى من السرطان، هو حقيقي أكثر من الوجود نفسه، "حقيقي أكثر منكَ"، يقول مخاطباً نفسه والمستمع. مع تخييم  طيف الموت على كوهين، يتلاشى التفاؤل والأمل الذي لطالما طبع شعره وموسيقاه.


دايفيد بوي: وداع مسرحي

إن كان كوهين قد واجه ساعة الموت برزانته المعهودة، فقد فعل دايفيد بوي العكس تماماً. بوي المعروف بإستعراضه المسرحي، قرّر أن يحوّل موته إلى مشهدٍ ملحمي في ألبوم "Blackstar". يظهر بوي في الشريط المصور لأغنية "Lazarus"، عجوزاً هزيلاً، متألماً، ومتهالكاً على سرير المرض. بعينين معصوبتين، يستعرض بوي شريط حياته التي عاشها "كالملك". بجسده النحيل، الذي ناهز عقده الثامن، ينتصب بوي مكسياً بزيٍ أنثوي، في محاولة لإستعادة شيءٍ من شبابه الحافل بالجمال والإثارة. يرقص، ينتفض، ويرتجف. يأبى الذهاب بهدوء وتحفظ. يقول بصراحة "لدي الكثير من الدراما".


ترافق الموسيقى رحلة بوي إلى الموت، فيحتدّ إيقاعها كل ما إقتربت من نقطة الصفر، لتضحي في النهاية فوضى عارمة بالآلات والـsynth، فتقرب في بعض الأحيان ميدان "السايكاديليا"، في ما يشبه هلوسات الموت. خلال مهنته التي استمرّت على مدى خمسة عقود، أعاد بوي اختراع هويته وشخصيته الفنية مرات عديدة. وفي عمله الأخير الذي صدر قبل يومين فقط من وفاته، استمرّ بوي في التجريب، مع إدخال عناصر الإلكترونيك والجاز في موسيقاه التي كانت أقرب إلى البوب روك.


جوني كاش: تربّع مملكة من تراب

على مائدةٍ زاخرة بالطعام، يجلس جوني كاش وحيداً، مثقلاً بأعوامه الواحدة والسبعين، متأملاً "إمبراطورية من تراب"، هي حياته الذابلة التي يراها تفلت من بين أصابعه. تحيط بكرسيه البارد مشاهد رتيبة ومعتمة تشي بالموت، تقابلها صور مشرقة وحيّة عن حياة كاش الآنفة، تظهر وكأنها حلم بعيد عن الشباب المفقود. تقف زوجته خلفه على سلالم منزلهما، تستمع إلى ألمه، وتذرف دمعاً. يختزل هذا المشهد من الشريط المصور لأغنية "Hurt" تجربة الموت بوحدتها ورهبتها. فبعد ثلاثة أشهر فقط، ستتوفى الزوجة ليتبعها كاش في غضون أربعة أشهر.

كانت  "Hurt" آخر الأغنيات التي أدّاها جوني كاش، وهي لم تكن في الأصل له بل لفرقة NIN. أخذ كاش أغنية industrial rock صاخبة وحوّلها إلى نغمة ريفية رقيقة. كما أن أداء كاش لها غيّر من روحيتها وتأويلاتها. فقد أعطى كاش للشعر الأصلي الذي يتحدث عن الضياع في عالم المخدرات معاني جديدة وشديدة الإختلاف. فأصبح أغنية عن الندم والخلاص، وعن الذنوب التي يواجهها المرء في ساعته الأخيرة. من شدّة تأثر ترينت ريزنور، عضو فرقة NIN الذي كتب الأغنية الأصلية، عند إستماعه إلى نسخة كاش، أعلن أن الأغنية هي ملكٌ للأخير.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024