فادي أبو خليل... شاعر الصورة خارج الشاشة

محمد حجيري

الأربعاء 2015/12/23
قد يكون من المفارقات، ان الشاعر والمسرحي فادي أبو خليل، الذي ذكره الروائي محمد أبي سمرا في مقاله "الخلاص الصوفي: بشير الجميل وميشال عون"، كنت ألتقيه يومياً في مقاهي شارع الحمرا الآفلة، وفجأة اختفى كأنه في غيبة سميناها على سبيل المزاح بـ"الصغرى". كان علامة من علامات عشق المكان ومشهديته ومدينيته، وفجأة انتبه كثيرون إلى أنه لم يعد يتسكع على رصيف رأس بيروت، ولا يلقي نظرة على الجالسين في المقهى ويمشي، لم يعد يقدم مسرحيات بأفكار جديدة مغايرة، وتوقف عن إصدار دواوين شعرٍية بلغة يومية حداثية مختلفة... وربما لم يكن سهلاً أن يمارس صاحب دواوين "فيديو" و"لا شيء تقريباً" و"غيوم طويلة" و"أني اتذكر"، قطيعة مع شارع كان صورة من صور يومياته وناسه ورواده.

آخر مرة سمعت خبراً عن فادي أبو خليل، كان في العام 2008، عندما قال الشاعر فيديل سبيتي للصديق رضوان الأمين: "لقد التقيت بفادي أبو خليل في متاجر abc الأشرفية، وبعدما تعارفنا من جديد، سألني: هل أنت فيديل؟ أجبته: فادي أينك لا نراك؟ فقال لي: "يا فيديل الوضع مش منيح".. وانتهى الحديث هنا، قبل أن يغادر فيديل المنطقة وهو دائماً يطمح إلى قراءة قصيدة جديدة لفادي أبو خليل الممثّل والشاعر والمسرحي.

وأتذكّر آخر مرّة شاهدتُ فيها فادي أبو خليل، ليس في الشارع بل في فيلم "خلص" (إخراج برهان علوية)، وهو قصّة صديقَين حميمَين من أيام الحرب الأهلية (فادي أبو خليل وريمون حصني) يتحوّلان إلى السرقة بعدما فشلا في تحقيق الآمال المعلّقة. أحدهما يعتقد أنه يستطيع أن يفعل كل شيء بما في ذلك الانتقام من حبيبته، لكنه في الحقيقة لا يستطيع سوى الهرب، إليها حيناً، وبعيداً منها حيناً آخر (تشبه القصة علاقة فادي والكثير من المثقفين بشارع الحمراء).

حين فتشت في الانترنت عن صور للشاعر المختفي، لم أجد إلا صورة له في مقهى "الروضة" من الفيلم المذكور، وآخر أخباره تعود إلى بداية الألفية الثالثة، وكان فادي أبو خليل في يومياته البيروتية، يتجوّل في سيارته الشيروكي وقبلها الرينو، أو يتمشّى ذهاباً وإياباً على الرصيف، ويجلس في المقهى متأمّلاً وممازحاً الجميع. غادر أبو خليل الشارع بإصرار ومن دون إعلان، وفي المقابل تبدّلت الأمكنة التي كان يرتادها، من مقهى "المودكا" إلى مقهى "الويمبي" (أصبحا محالاً لبيع الألبسة الجاهزة)، و"الكافيه دو باري" (باتت مطعماً للوجبات السريعة). ربما يكون شِعر أبو خليل خير معبّر عن أحوال المدينة وشوارعها. يقول في كتابه "فيديو" (منشورات دار الجديد) أن محل "Red Shoe" يبدّل كثيراً من لافتاته، والأمر ينطبق على معظم المحال التجارية في الحمرا: حانة "شي أندريه" التي كانت تعتبر الاقدم في المنطقة، واستقبلت الكثير من المشاهير اللبنانيين (مثل جورجينا رزق وزياد الرحباني) وحتى بعض العالميين (مثل جوني هوليداي)، فضَّل صاحبها إعدامها والخروج منها الى محل جديد متجاهلاً روادها التاريخيين وعلاقتهم بالمكان. واجهات السينما اندثرت ولم يعد للأفيشات الضخمة أي حضور. معظم المعالم القديمة استسلمت إلى تحوّلات المدينة التي غرقت في خضم الاستهلاك، مع تنامي ثقافي النراجيل وكثرة رواد الكحول والليل.
فادي أبو خليل ابن منطقة الأشرفية والمتحدر من بلدة اللويزة(جبل لبنان)، كان من عشاق شارع الحمراء، وحتى في خضم الحرب الأهلية اللبنانية اخترق خطوط التماس، وقيل إنه كان شيوعياً في الوسط الكتائبي، وتردّد أنه دوّن كتابه الأول عندما كان يقف في شارع الحمراء بسيارته. أما كتابه "فيديو" فكتبه عن محال شارع الحمراء وشخوصه وكتّابه وشعرائه (ثمة من اقترح عليه أن يسمّيه "ويمبي")، ويكتب فيه عن الشاعر بول شاوول "الملل كوشاح على وجهه"، ويهدي قصائد لبعض الشعراء، ويقول في مقدّمته: "تلهمني المباشرة، أن أرى نفسي أتكلّم مباشرة، بواسطة الشعر أو شاشة فيديو". أيضاً، يعلن أبو خليل في المقدّمة ذاتها: "النثر والمعدن والفيديو من علامات حياتنا الواضحة. ما عاد بالإمكان الاستمرار بدونها". وقصائد أبو خليل، عموما يتمّ التركيز فيها على الذاكرة السينمائية وعلى إيحاءاتها كما يقول الشاعر يوسف بزّي. كتب قصيدة بعنوان "فيلم" من "لا شيء تقريباً": "عندما أشعلت لولا سيجارتها/ وتمدّدت على السرير/ وقف "سيلر" على باب الحمّام/ يسترجع ماضيها بدون "سيلر"/ ماضيها الذي تألم كثيراً/ تلك اللحظة".
بل إنه كتب قصيدة أخرى، أيضاً بعنوان "فيلم" يقول فيها: "لست البطل/ ولا الظلّ/ في هذا/ الفيلم". وله قصيدة بعنوان Fiction: "أسماك قرش/ تسبح في التلفزيون/ ضفادع وعارضات أزياء/ مسوخ وأرقام/ مذيعون وأفلام كرتون/ لما أفقت/ كان كل شيء/ قد عاد الى أصله".

كان أبو خليل مُقلّاً في اصدار الشعر واختزالياً في الكتابة، وحجم الكثير من قصائده ربما مثل "سيستام" حجم قصيدة الهايكو. وعدا عن خروجه عن مشهد ثقافة المدينة، فهو كان ينعي موقع الشعر في آرائه، ويعتبر أنه(أي الشعر) "ينتمي الى العالم القديم الذي نعرفه نحن(..). وهو أيضاً مركز للكلمة الصافية التي تصفى الى درجة تشع معها. لقد جاءت الشاشة وخربت المواقع، (...) يقال مثلاً: موقع على الانترنت، وهو في قلب شاشة، والشاشة أمامك وحدك، لا يشاركك الآخرون فيها. بينما الشعر في زمنه كان لغة في الهواء، تصل الناس بعضهم ببعض، وتجعلهم يسهرون ويغنون ويحلمون معاً. ما نكتبه نحن اليوم، هو تماماً ما بعد الشعر... ربما كان جثة الشعر".

ولا يمكن اختصار تجربة ابو خليل في الشعر. فهو قام بالتمثيل في بعض الأفلام والمسلسلات اللبنانية، وكان أكثر حضورا في المسرح. عرفه الجمهور ممثلا في مسرحيّة جوزيف بونصّار "العائلة طوط" أوائل الثمانينات، وقدم تجارب مسرحية وصفت بالمحيرة، باعتبار أنه آت من خارج المدارس والاتجاهات الرسميّة. واشتهر بمسرحية "بوب كورن" ومسرحية "راديو وشعر وحديث" التي أحدثت صدمة، وتناول قصائد شعراء خمسة، هم حسب توالي نصوصهم على الخشبة: عبّاس بيضون، أنسي الحاج، بول شاوول، محمد الماغوط، رشيد الضعيف. يهتمّ أبو خليل باستخراج المادة المسرحيّة من النصّ، ويطرح أسئلة حول كيفيّة اداء المشهد الشعري.

منذ أن غادر أبو خليل شارع الحمراء كثرت التساؤلات حوله: أين هو؟ ماذا يفعل؟ هل ترونه؟ كيف نصل إليه؟ هل لديه رقم هاتف؟... صديقه الشاعر يحيى جابر كتب عنه نصاً عنوانه "عن شاعر مفقود يُدعى فادي أبو خليل"، قال إنه سيهديها إلى روح فادي الذي لم يمت. لا أحد ينكر أن أبو خليل كان من وجوه الشعر الحديث في لبنان، وقد سُمّي مع مجموعة من أبناء جيله بأنهم "جيل شعراء الحرب"، وهذه التسمية انتهت وباتت تلاقي اعتراض بعضهم... واللافت أن الكثير من معدي الانطولوجيات الشعرية تناسوا صاحب "فيديو"، ربما لأنه غادر الصورة النمطية للثقافة السائدة.
 
من قصائده:

دائرة الساعة

الواقفون في الخامسة،
الأشخاصُ الذين يلبسونَ دائرة الساعة
بطريقةٍ معكوسة.
ماذا يفعلون بالعقرب الصغير
بماذا يلوّنون وراءهم،
بصباغ الأحذية؟
لو أضاعوا طاقة أيديهم
في غرف التسلية؟
أو توزعوا إلى حركاتٍ حرةٍ،
كالمشي بأصبع واحدةٍ
على سِيركٍ طويلٍ
يصل إلى طاولةٍ مستديرةٍ محيِّرة.
تلمعُ الرئةُ بالدخان دون أن يشعر الشخص
بشيءٍ يذكر.
تُلقى مفاتيح الألعاب من الجوارير
على جبال الساعات،
دون أن تحدث صرخةٌ في المسافة.
الأشخاص الواقفون على رؤوسهم
في دائرة الساعة،
يحركون في الطناجر هزّةً كبيرةً بحجم طابقٍ
يأكلون روحاً حتى قدميها.

***

الضوء أيضاً

الحبُ نفسه هذا المساء
الضوء أيضاً خلف القماش
يقيسُ وجهكِ
اليدُ نفسها
كلما اقتربنا.
وجهةُ التماثيل على الطاولة
الإنحناءةُ في الهواء
حركة السرير.
النظرةُ نفسُها على الوسادة
الدبابيس المبعثرة
ولاّعتكِ
الدفاتر المحفوظة
الفسحةُ نفسها كلما تباعدنا
الرقةُ التاكيةُ على الكرسي
التمدّدُ في المرآة
الكلمات.

***

نائمون كعيون الأسماك

تلك المرأة
الرائحة المنقولة
بخطواتها الباحثة عن سمائنا
تحت الأرض،
حيث نسحب ببطءٍ
أسلاك أرواحنا
وتتأهب الجدران بعيوننا المدوّرة
كإنفجارات خفيفةٍ متلاحقة.
كنا فضائيين كمنازل
قد تخرجُ من نوافذها.
نُمسكُ جلودَنا
نعلق بالتحرّك الثقيل للعددِ والأقدام.
من عينيها المبعثرتين داخلها
إنفتحتْ صرخةٌ في أول الجدار،
فراشةٌ حول تراب أكتافها.
كأضلاع البناية التي غابت من
كثافة الفضاء المتواصل
ما بعد الباب الذي يلمع عليه الإنفجار
كنا ضعفاء،
نائمين كعيون الأسماك.
كنا لشدة أجسادنا وأماكننا
لشدّة دخاننا وابتعادنا تحت الطوابق.

***

للصمت آلاته وحركاته العازفة

للصمت ورقة خلف جسد الإختباء.
عينٌ مشدودةٌ بأقنعة العلب الداخلية
وأوتارٌ ملفوفة.
للصمت عبورٌ مالسٌ إذاً
فرصةٌ للتمرئي.
أزياحٌ إذاً،
لمساتٌ عاريةٌ لحفظ الرسائل.
للصمت كثافة الجلوس
خفّة الأقفال حطبُ الأرقام.
... بقايا طعامٍ وطاولاتٍ
راحاتٌ للذقون
أظافرٌ لجلد الصفحات والمساء.
... خدمٌ ذهبٌ وأجبانٌ مشعّة
أمشاطٌ للذهاب إلى نهاية
المرايا.
للصمت جوانبُ بارزة الأضراس.
للصمت
يدٌ تسحبُ وسادةً مغمياً عليها
من التفكير في هواءٍ دائريّ.
عتمة في الطناجر
وحياةُ الحشرات الخفيفة.
... عَرقُ عضلاتٍ
ومراقصُ لكائنات الغيظ.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024