"عيش مرحرح" وبنجر وبطاطس أيضاً

شادي لويس

السبت 2021/04/10
حين أصدر الأنثروبولوجي الأميركي، سيدني مينتز، كتابه الأشهر "الحلاوة والسلطة: مكانة السكر في التاريخ الحديث" (1985)، لم يكتفِ فقط بعرض الأدوار التي لعبها السكر وعمليات إنتاجه واستهلاكه في صعود الإمبراطورية البريطانية وأفولها. فمساهمة مينتز الأهم هو تقديمه بحثاً ريادياً في كيفية العمل على تقاطعات الأنثروبولوجيا الثقافية ودراسات الطعام مع الاقتصاد الزراعي والعلوم السياسية، كاشفاً بشكل أكثر جلاءً، الأبعاد المعقدة لمبحث الغذاء، وأدواره الجوهرية في عمليات استخراج القيمة وبنى السلطة والعلاقات والممارسات الاجتماعية، والتاريخ بمعناه الأوسع.



في كتابهما "عيش مرحرح: اقتصاد سياسي للسيادة على الغذاء في مصر" (2021)، ينطلق الباحثان، محمد رمضان وصقر النور، من مرجعيات مشابهة في تقاطع حقولها المعرفية ودمجها. فعبر أساليب مختلطة للبحث الأنثروبولوجي، بين سير الحياة والملاحظات والنقاشات، وفي ربط التاريخ الشخصي للفلاح بالتاريخ العام للتغيرات السياسية والاقتصادية، يقدّم الكتاب دراستين عن أحوال زراعة البطاطس في قرية إبوان في المنيا، وزراعة بنجر السكر في قرية هوارة المقطع في محافظة الفيوم، بالإضافة إلى مبحث منفصل عن الخبز والنساء في الريف المصري. يعمل الكتاب على مستويي الاقتصاد الكلي والاقتصاد الجزئي، ليتناول المستوى الأول الاقتصاد السياسي الزراعي بشكل عام، والتحليل الاجتماعي التاريخي لواقع الزراعة الفلاحية، فيما يسعى المستوى الثاني عبر أدوات أنثروبولوجية والبحث المحلي، إلى سد الفراغات التي تهملها الصورة الشاملة، وتدقيقها بالنظر في سبل عيش الفلاحين. 

في مقدمته، يشكّك الكتاب في مفهوم "الاكتفاء الذاتي" المرتبط بأيديولوجيا دولة ما بعد الاستقلال، وكذا مفهوم "الأمن الغذاء" الذي حلّ محله لاحقاً، ويرفض تركيزه على الميزة النسبية لمحاصيل بعينها وتوزيع عمليات إنتاج الغذاء بوسائل "فوردية" على مستوى كوكبي. وبدلاً من كلا المفهومين، يقدم الباحثان مفهوم "السيادة الغذائية" كمدخل يمنح الأولوية لحقوق المجتمعات المحلية وبيئتها قبل الامتيازات التجارية والأسواق العالمية.

يسرد الكتاب تاريخ لعلاقة الريف بالحضر في مصر، بوصفها علاقة نزع للقيمة من القرية لصالح المدينة، أو بمعنى آخر أستحواذ المدينة على الريف عبر الدولة. ويتتبع التغييرات التي طرأت على الريف واقتصاده الزراعي، منذ الإجراءات التي فرضها محمد علي على شكل ملكية الأراضي الزراعية، أي "التراكم القائم على النزع"، مروراً بالحرب الأهلية الأميركية وصعود زراعة القطن كمحور للاقتصاد المصري، وصولاً إلى الإصلاح الزراعي الناصري والإصلاح المضاد في عهد السادات ومن بعده. وعبر تلك السلسلة الطويلة من التحولات، العنيفة أحياناً كثيرة، والمختلفة في مرجعياتها ودوافعها، فأننا نكتشف أن ما يوحدها هو غايتها النهائية، أي الدمج القسري للقرية المصرية في منظومة الرأسمالية العالمية. 

لاحقاً، يوضح الكتاب تلك النقطة بشكل أكثر تفصيلاً، برسم صورة مركبة لزراعة البطاطس والبنجر مصر، لا تكتفي فقط ببسط مخطط لسلاسل القيمة لكلا المحصولين بل سرد تاريخ اجتماعي لهما في مصر. يربط تغيّر الخريطة المحصولية والتحولات في أنماط التغذية، كارتفاع استهلاك البطاطس والسكر، وتفاوته بحسب الطبقة والتحولات الاقتصادية والسياسة والتقنية، ويفسر الفجوة السكرية في مصر وأسباب صعود البنجر على حساب القصب في إنتاج السكر. كل هذا يُفهم في إطار شبكة أوسع من العلاقات، تنظمها احتكارية شركات استيراد التقاوى وتوريد الأسمدة، والاشتراطات التعسفية للزراعة التعاقدية المدعومة احتكارياً من الجهة الأخرى، أي من جهة شركات تصدير البطاطس ومصانع تصنيع سكر البنجر الحكومية والخاصة.

لا يعتبر الكاتبان البذور مجرد مدخل من مداخل عملية الإنتاج الزراعي، بل مفاتيح وراثية للتنوع البيولوجي ومقاومة تغيرات الطبيعة، وأيضاً كبنية للذاكرة الجمعية والتراكمات المعرفية والثقافية المرتبطة بالمحاصيل المحلية والعادات الغذائية والممارسات اليومية المرتبطة بها، والتي مرت بسلسلة طولية من عمليات التكاثر والانتخاب التاريخية. لكن وعلى الرغم مما يوحي به هذا التعريف من رسوخ لـ"نظام البذور"، فإن الكتاب يكشف كيف أن عمليات التحديث القسري للريف في مصر، قادتْ إلى انحسار زراعة السلالات المحلية، كالقمح البلدي، إلى حد الانقراض، وذلك لصالح أنواع أعلى إنتاجية. وفي الوقت ذاته تحتكر ثلاث شركات دولية فقط أكثر من خمسين بالمئة من إنتاج البذور في العالم، وهي الهيمنة التي فرضتها أتفاقية التربس لحقوق الملكية الفكرية 1994، والتي حوّلت الأصول الجينية والمعارف المحلية المرتبطة بالإنتاج الزراعي، من مشاع إلى ملكيات شركات دول الشمال التي تحمي احتكاراتها بأسبقية التسجيل.

لكن تلك الهيمنة وعمليات الدمج تظل غير كاملة وغير مطلقة، فتاريخ التحديث غير المتوازن سمح للفلاحين في الريف المصري بالتحايل على نظام الرأسمالية المعولم ومقاومته، وخلق مساحات موازية لا تخضع لقواعد السوق أو حتى نظرية المنفعة. فبالنسبة لكثيرين من سكان الريف، غدت الزراعة نشاطاً اقتصادياً واحداً ضمن أنشطة أخرى للكسب، حيث يعمل الكثيرون منهم في مهن حكومية أو خاصة دائمة، أو يعملون بشكل مؤقت في أعمال أخرى في الحضر أو في الخارج. رسختْ هذه المنظومة المتنوعة للكسب، صوراً للعمل التعاوني والمزاملة بين الأهالي، حيث يعمل الجيران بالتبادل ليقوموا بالفلاحة نيابة عن الغائبين للعمل في أماكن أو أنشطة أخرى. كذلك فإن اقتصاد "الحوف"، أي الزراعات المنزلية والمحاصيل الموجهة للسوق القروي والتي تزرع على حواف الأرض الزراعية وتلعب فيها النساء دورا رئيساً، تظل مساحة لممارسة "السيادة الغذائية" بعيدا عن قواعد الزراعة التجارية. 

ربما لا يفلح "عيش مرحرح" في أقناع جميع قرائه بنظام زراعي بديل، لكنه وبلا شك نجح بواسطة نصه الواضح والسهل الفهم، ومن خلال دراسة عن قريتين، في رسم صورة لعالم كبير وتاريخ طويل ومعقد وسريع التغيّر. ترتبط فيه دولة محمد علي بشركة "شيبسي" والملياردير المصري ساويرس باتفاقية التجارة العالمية، والجينات وحقوق الملكية الفكرية بعبد الناصر والاتحاد الأوروبي وبتغير العادات الغذائية للمصريين. وترتبط فيها شركة بيبسي مع جماعة الإخوان في الاتحاد الاشتراكي وسلاسل القيمة ونظريات سبل العيش بالاستعمار البريطاني، كل هذا بشكل مبسط وبدون ادعاءات كبرى، ومن خلال قصص محلية ويومية ومباشرة، مع الكثير من الجداول والرسومات البيانية. ولا يعود منجز الكتاب إلى المعلومات والاستنتاجات التي يقدمها في حد ذاتها، لكن لأنه أيضاً يفتح أفقاً واسعاً أمام غير المتخصصين، ويقدّم الكثير من التفاصيل المهملة بخصوص الريف المصري وتحولاته والعلاقة الوثيقة بين القرية والسوق المعولم، وكذا يطرح طرقاً للتفكير وفهم المحلي والعالمي علاقتها، وكل هذا يمر عبر البطاطس والبنجر والخبز البلدي. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024