سينما الوباء (4): بالنسبة لبكرة شو؟

محمد صبحي

الأربعاء 2020/05/06
التفكير في مستقبل السينما، والفنون جميعها، في عالم يبدو أن عليه تعلُّم التعايش مع الأوبئة، ليس ترفاً برجوازياً أو تعالياً على المشكلات العميقة المغروسين فيها، منذ زمن لا يعلمه إلا الله، نحن سكان تلك المنطقة الموبوءة بحكّامها ومعارضتها وسياقاتها وظروفها التاريخية. لأن السينما كمساحة عامة، يمكنها الحفاظ على فكرة الجمهور ككيان نشط وفاعل ومؤشر على التفاعلات الاجتماعية في مكان ما، وحتى كبيان موثوق عن طبيعة وجودة الحياة في هذا المكان.


في أيام الشَّلل الاجتماعي هذه، نرى اهتماماً، مستعاداً ومسترداً، في نشر الأفلام. كل ما على المرء فعله هو الولوج إلى مختلف شبكات التواصل الاجتماعي لإدراك الوجود الوافر لمحبّي السينما وشغّيلتها (أو المحترفين الذين تحولوا إلى "يوتيوبرز"، ولا يعرف المرء ما الذي جاء أولاً، الناقد أم تمثيله) ممن يحاولون الحدّ من صدمة الحبس المنزلي الإجباري، بوضع وترشيح لوائح لأنواع فيلمية مختلفة للغاية، حيث العديد من التوصيات "لقضاء وقت ممتع"، و"النقد حسب الطلب" وأيضاً بعض العناوين التي ربما فات جمهور السينما الواسع ملاحظتها.

"مُتَع مُذنِبة"
بالطبع تحظى اللوائح المتضمنة أفلاماً شعبية من ذوات الإنتاج الكبير، بحضور واسع، خصوصاً في غالبية إنتاجات "المحتوى" العربية، لأنها تسمح لنا بالهروب من الواقع مع القليل من الاهتمام بمحتواها وبنيتها، بما فيها تلك المصطلح على تسميتها في التقليد الأنجلوساكسوني "متعاً مُذنِبة" (guilty pleasures)؛ وهي إحدى علامات الثقافة السينمائية الشعبية الرائجة التي تطرد خارجها سينمائيين من طينة تاركوفسكي أو بيلا تار، على سبيل المثال، من بين عديد الأسماء البارزة الأخرى في تاريخ الفيلم.

باختصار، تسود النوايا الحسنة، في سبيل رغبة واضحة "للاتحاد من بُعد" تكنولوجياً، ما يصنع المفارقة في شعورنا بطبيعية ما يحدث. تفرض الإتاحة الإلكترونية، غير المنظمة والوفيرة، للأرشيف والمنتجات السمع-بصرية خلال الشهرين الماضيين، تساؤلات حول طبيعية تلقّي المنتج الفني في غير وسيطه المفترض منقوصاً من أحد أهم شروطه: روح المشاهدة الجماعية. وفي الوقت نفسه، ننتظر الأخبار الجديدة، حيث غياب اليقين هو الأمر المؤكد. لا أحد يعرف ماذا سيحدث بعد الوباء، وإذا التزم كل معنيّ بالسينما بوظيفته وموقعه، يمكن القول أن تلك التوصيات الثقافية وعروض الأفلام والمهرجانات الإفتراضية في الإنترنت، هي مخدرات ضرورية، وإن أتت مع نظائر مقلقة.

بعبارة أخرى، إذا ما اعتمدنا تلك الخوارزميات اللطيفة كنموذج وحيد لروشيتة سينمائية تثقيفية، فهذا يعني ببساطة إغلاقاً كاملاً لمجال المراجعات النقدية المحتضر بالفعل. وبالمثل، إذا سيطر نموذج مهرجان السينما اليوتيوبي (كما ستفعل مجموعة من المهرجانات السينمائية الكبرى أواخر الشهر الجاري)، فلا حديث مستقبلياً عن جماليات الشاشة الكبيرة أو معمل التفاعل الجماهيري والمشاعر الإنسانية المتراصة/المندمجة/المتنافرة في صفوف متجانسة.

في الشهرين الماضيين، أثبتت منصات "المشاهدة حسب الطلب" نفسها، كمزوّد ناجح بالمنتجات السمعية-البصرية. لكن إذا تجنّبنا الوقوع في فخاخ الأرقام والإحصاءات المتقدمة، ماذا نرى في "نتفليكس" و"أو إس إن" و"إتش بي أو" و"أمازون برايم" و"ديزني بلس" و"آبل تي في"...؟ ماذا تقدّم هذه المنصات؟ من الذي يحلّلها بعمق، أبعد من نقاش موجز حول طبيعتها ومستقبلها وتأثيراتها وتسليط الضوء على تفصيلين أو ثلاثة؟ بأي نيّة نشاهد منتجاتها؟ كيف نقارب هذه القصص؟ وماذا لو أبقى المستقبل هذا التباعد الفيزيقي الكفيل بالقضاء على فكرة الدخول إلى السينما أساساً؟

بينما نضغط على زر التشغيل في جهاز التحكم من بُعد، أو نضغط على المثلث الموجود على منصة المشاهدة المعنية، فإن نموذج الاستهلاك يتحوّل قسرياً نحو انقراض السينما، ليس كمعبد (دعونا نتجنب القياس الديني)، بل كمنتدى جماعي. ليس الجدل حول كيفية جعل نموذجَي المشاهدة متعايشَين، والذي كان يحدث بطبيعية منذ سنوات، ويستمر اليوم بصراعاته الداخلية بفضل التغيير الحاصل في تحليل الجمهور المستهدف، فيستبدل المتفرج (شخص ينتظر الكشف والبوح) بذلك المستخدم (مستهلك سريع التأثرعرضة للقصف بمنتجات ثانوية). النقاش الافتراضي، الذي أصبح أكثر إلحاحاً، سيتركز حول المكان الذي يشغله كل واحد. أيضاً حول آليات الرعاية والتطوّر، المستمدة من الحقل التعليميّ، القادرة على توليد متفرجين جدد يقدّرون التفاصيل الدقيقة لصناعة السينما بما يتجاوز الانخراط في استهلاك فن مُعبَّأ. الاستعجال والهرولة نحو حلول سريعة، دائماً ما يفتحان الباب لانهيارات كبرى، لكن هذا القلق من شأنه مساعدتنا على منع الأخطاء المفاهيمية المستقبلية.

في الشهر الماضي، حاول الموزّعون - بتفاوتات في النتيجة - عرض أفلامهم في الظروف غير المستقرة التي تسمح بها منازل المتفرجين، ممن تحدّ وسائلهم التقنية من الإيفاء بشروط المشاهدة السينمائية، حتى لأولئك الذين لديهم شاشة كبيرة مع نظام صوت خارجي، وهم أقلية على أية حال. وغني عن القول أنه لا تزال هناك أفلام (على الأقل تلك التي تستخدم الخط السينمائي، ومصوّرة لهذا الغرض تحديداً) مصممة للعرض على شاشة بطول 15 متراً. تلك المنتجات الساعية لمواصلة الحلم والحنين للضوء القادم من الدار الخلفية لصالة السينما. بقصص مغازلات الموت، والرغبة في الموت غرقاً قبل أن تغرق السفينة بشكل ميؤوس منه. القصص التي نتعرّف فيها على أنفسنا، ولا نتعرّف أبداً على شخصياتها بالشكل الكامل؛ ومن هنا الحاجة لمعاودتها من وقت لآخر.

السلاسل التلفزيونية: استعباد
مع ذلك، وفي مقلب آخر من تلقّي المنتجات السمع-بصرية، تخلق السلاسل التلفزيونية تجارب سردية أقرب ما تكون إلى النمط الاستعبادي، وفقاً لمبدأ التشويق التلفزيوني، لكنها تؤدي في الغالب إلى نوع من الذاتية المزيّفة. إنهما الزوجان المثاليان، حتى الحلقة التي يقرر فيه مسيّر السلسلة تجربة ألعابه عليهم. يستمر العرض، ويستمر المتفرج في استهلاكه، ثم "كان موسماً رائعاً أيضاً". لذا يجدر تحليلها من زاوية نقدية أخرى، حتى إذا كان هناك معجبون متحمسون وصحافيون أشاوس يخبرونك أن "أفضل سينما تُصنع حالياً في التلفزيون"، كما لو أن "نتفليكس" تحوّلت فجأة إلى محراب ثقافة عالمي، ويعلنون فعاليات تنقلهم من وقت لآخر إلى صالات السينما مع تبرير جاهز بمشاهدة "الفيلم الظاهرة" الجديد. هذا بيع فنكوش، باختصار.


لا ينبغي فهم الجمهور في هذا السياق على أنه إحصائيات، حيث تؤدي كتلة متبلورة من المستهلكين إلى الاعتقاد بأن كلاً منهم هو القيّم على عاداته وإضافاته الفريدة المزعومة في الإنترنت. بدلاً من ذلك، نحن نتحدث عن الحفاظ على الجمهور كمجموعة مادية فعلية من الناس، الذين تجمعوا للاحتفال بالفكرة النقدية للمساحة العامة المادية الفعلية، للمشاركة في فعل المقاومة، والإحياء المستمر لطقوس الفرجة والتفاعل، في أحد المعارض العامة المدهشة للفضول الإنساني والاحترام المتبادل.

نحن الممثلون في فيلم الرعب هذا
لعل أسئلة المقالة لا تتجاوز شكلاً بلاغياً معيناً، حيث لا إجابات حقيقية. نعيش في مناخ من الارتجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، محلياً وعالمياً. لكن، في غياب الحلول الفورية، ربما يمكننا أن نضع، كلٌ في موقعه، أطروحة تساعد في تعزيز كل من الصناعة الصغيرة ووسائل الإعلام المستقلة، التي لا تكفّ عن الترنّح تحت وطأة الشحّ المادي مثلما تكمل مهمتها اليائسة في مكافحة شروط وقواعد النظام السائد. يجب أن نبدأ في التشكيك في دورنا، كممثلين في فيلم الرعب هذا من دون بطل واضح.

المكاشفة الودية مقبولة، بقدر ضرورة المعارضة اللازمة لتفكيك الخطاب النقدي. سرعة وسهولة التحوّل من العروض السينمائية العامة إلى المشاهدة المنزلية، من طرف منتجي الأفلام والموزعين والعارضين، سواء المؤسسات التجارية والثقافية، تذكير إضافي بأن أزمة فيروس كورونا لن تقف تأثيراتها عند حدود وقتها، بل ستتعدّاها إلى تغيير أنماط المشاهدة حتى بعد انتهاء الأزمة. جادَل جان بول سارتر، بأن الحرية لا شيء سوى وجود إرادتنا، وأضاف أن الإرادة ليست كافية في الواقع، لكن عليك أن تريد أن تريد. ربما لن يكون من الصعب تخيُّل هذه الفجوة السارترية بين "الإرادة" و"إرادة الإرادة" كإيضاح مثالي للفجوة بين "أنقر لمشاهدة التالي" شبه الواعية، وبين رحلة مخططة إلى صالتك السينمائية المفضلة. إذا كانت صالتك السينمائية المفضلة، أي الحرية، لا تزال موجودة بعد كورونا.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024