"عصر التعايش" لأسامة مقدسي.. الطائفية ليست قدراً

شادي لويس

الجمعة 2019/10/25
"كل تاريخ للطائفية هو تاريخ للعيش المشترك"، هكذا يفتتح أسامة مقدسي كتابه "عصر التعايش: الإطار المسكوني وصناعة العالم العربي الحديث"، الصادر بالإنكليزية عن جامعة كاليفورنيا. يستكمل مقدسي ما بدأه في "ثقافة الطائفية"(2000)، و"مدفعية الرب"(2007)، محاولاً كتابة تاريخ لعلاقة الدين والطائفة في مخاض ميلاد الدولة العربية الحديثة في المشرق. وفي سبيل ذلك يتجاوز مدرستين للتنظير، ترى إحداهما إن الطائفية عنصر أصيل في ثقافة المجتمعات العربية، وقدرها التاريخي الذي لا فكاك منه، فيما تذهب الأخرى في الاتجاه المعاكس تماماً، بإيمان شبه روحي في عصور ذهبية من التسامح الإسلامي انهارت مع انهيار الخلافة العثمانية وفرض نسخة مشوهة من العلمانية الغربية على المنطقة.

لا يسعى "عصر التعايش" للتوفيق بين التيارين بالوقوف في منتصف الطريق، بل يرفضهما معاً. ما يؤكده مقدسي المرة تلو الأخرى، هو إن أي تأريخ للمذابح الطائفية يعني تأريخاً للتعايش في الوقت ذاته، فالمذبحة تظل دائماً الاستثناء. وفي سياق ذلك يصك مصطلح "الإطار المسكوني" ليصف منطق العيش المشترك، الذي يمتد من العصر العثماني، مروراً بفترة الانتداب، وحتى قيام الدولة العربية الحديثة. لا يحمل الاصطلاح تعريفاً دقيقاً، فهو إطار لا يرتكن إلى مرجعية نظرية واضحة، خليط من القواعد العثمانية وترتيبات محلية وأفكار حداثية ووطنية، ثمرة توافق غير معلن، أكثر منه تمسكاً صريحاً بقيم العلمانية. يقودنا الكتاب بفصوله الستة عبر التحولات التاريخية لذلك الإطار، من النظام الملّي العثماني الذي سمح باستقلال طوائف غير المسلمين في تصريف شؤونهم الداخلية مع التأكيد على سيادة الإسلام.

وينتقل إلى إصلاحات عصر التنظيمات بضغوط من الدول الغربية، والتي انتهت بإلغاء الجزية والاعتراف بالمساواة بين جميع المواطنين "العثمانيين" باختلاف أديانهم أمام القانون، مع بقاء سيادة الإسلام كدين الدولة. لكن المرحلة الأكثر دموية، التي واكبت سقوط الدولة العثمانية، واندلاع عمليات التطهير العرقي والتهجير القسري في البلقان والأناضول، لا تجد مقابلاً لها في المشرق العربي. فأفكار النهضة العربية التي حمل مشاعلها رجال ونساء من الأقليات الدينية والإثنية في المنطقة كانت على العكس من أقرانهم في تركيا واليونان وبلغاريا، غير معنية بمنطق الدولة الأمة العرقي بل بفكرة التعدد، وتحويل مفهوم "الألفة" إلى "العيش المشترك". وكما يشير الكتاب فإن تلك الأفكار لم تكن مجرد تقليد لمبادئ العلمانية الغربية، بل رد فعل شديد المحلية للتعامل مع سلسلة من التحديات الطارئة، مؤسساً على تراث طويل من التسامح المقنن. 

يخفف مقدسي في "عصر التعايش" من النبرة المابعد كولونيالية في كتبه السابقة. فهو يخصص الفصل الرابع، للازدواجية الاستعمارية التي سعت لمواجهة الطائفية وقامت في الوقت نفسه بترسيخها باسم التقاليد. لكنه لا يذهب إلى الفرضية المبسطة التي ترى الطائفية مجرد نتيجة لسياسات فرِّق تَسُد، أو اختراع المستعمر لـ"تقاليد" ومن ثم فرضها على المجتمعات المشرقية، "فالتقليدي لم يُخترع بشكل عشوائي، لكنه أيضاً لم يُنقل بشكل أمين".

يبدو الفصل الخامس، المتعلق بتأسيس الدولة في لبنان والعراق في حقبة الاستقلال، هو الأكثر مواكبة للأحداث الجارية. فالكتاب الذي صدر قبل شهر واحد، جاء في خضم تظاهرات عراقية عابرة للطوائف ضد النخب الحاكمة، وقبل أسابيع فقط من اندلاع الاحتجاجات اللبنانية الجارية بخطابها المعارض لنظام المحاصصة الطائفية. يتتبع مقدسي جذور نموذج "الميثاق" اللبناني التأسيسي، وكذا منظومة التعليم الوطني الموحدة في دولة العراق الهاشمية، ويضعهما داخل الإطار المسكوني. فرغم اختلاف نظام المحاصصة الطائفية في لبنان مع عملية بناء الوطنية العراقية كمهمة تعليمية موحدة تفرض من أعلى، ففي القلب من النموذجين يظهر منطق للتعايش بدرجات متباينة من مدى الاعتراف بالتعددية.

لا يروج "عصر التعايش" لأفكار طوباوية عن المشرق، ولا يسعى لإنكار الواقع الطائفي في الماضي أو الحاضر، بل ما يفعله هو وضع الظاهرة في سياقها التاريخي، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مؤكداً على إن الطائفية ليست قدراً على المجتمعات العربية، ولا واحدة من خصائصها الثقافية المزمنة، مستبصراً في القلب من المذابح وأنظمة المحاصصة والتمييز الطائفي قصة طويلة عن إرادة عنيدة وحية للعيش المشترك.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024