ريمي بندلي لـ"المدن": خطير زجّ الأطفال في أغاني الغرام

جودي الأسمر

الجمعة 2019/09/06
تتكثف هالة الغموض الذي لفّ غياب ريمي بندلي عن الفن كلما مضى وقت على هذا الغياب الذي سجّل عدّاده 22 عامًا، منذ آخر حفلة لها في مسرح البيكاديلي العام 1993 بعنوان "عيد سعيد"، ثم اختفت، قبل أن تطلق ألبومًا بعنوان "ما نسيت"، ضمّ تسع أغنيات من إنتاجها الخاص وتلحينها. كانت تلك الخطوة، عودة فنية بالمعنى الجماهيري، إذ تلفت بندلي أنها لم تكفّ عن تعاطي الفنّ ونشره، تقول "أحمل الأغاني أينما طِرت وأوزّعها على الأطفال".

أجرت "المدن" حديثاً مع ريمي بندلي، حول مسيرتها الفنية في مختلف مراحلها، وجديدها الذي تعدّ له من مكان إقامتها الحالية في لندن.

غيابات عائلة بندلي... 
غياب ريمي في سياقه، يثير الحديث عن غياب أسرتها البيولوجية والفنية "عائلة بندلي"، فرقة الـ12 فنانًا، المتحدرة من ميناء طرابلس (لبنان) والتي قدّمت حالة خاصّة، تكاملت فيها المهارات بين الكلمات والتلحين والغناء والعزف. لقد راكمت الفرقة في المكتبة الغنائية العربية، خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، أرشيفًا فاق الـ100 أغنية، وجولات فنية خارج لبنان يسّرها متعهد المشاهير العالميين طوروس سيرانوسيان. الى أن توقفت الفرقة/العائلة عن تقديم المزيد في أواخر الثمانينيات، وهاجر قسم منها إلى كندا حيث استقرت ريمي لسنوات مع أهلها.

ما تقدّم يشير بأن ريمي بندلي آخر من بقي يزاول الفنّ في هذه الأسرة الفنية، وأوّل من عاد إليه. وكيفما تعدّدت الروايات حول الضمور الفني للعائلة ولابنتها ريمي التي لٌقّبت بـ"الطفلة المعجزة"، من شروخ شخصية وانفصالات وفض شراكات، إلا أنّ العائلة نفسها في ظهورها الإعلامي المقتطع، تنفي هذه الخلافات. مثلما جاء على لسان إيدي بندلي مثلاً، في مقابلة له في مجلة "الفن". ريمي، أيضًا، تؤكد: "غبت لأنني كنت أكبُر وصببت تركيزي على دراستي. ثم سافرت الى السويد وتزوجت. وعندما شعرت أنه حان وقت العودة للفنّ، عدت".

وبالفعل، تردّدت ريمي بندلي الى لبنان مرات عديدة هذه السنة. على سبيل المثال، وقّعت ألبومها الأخير في مركز الصفدي الثقافي، وأحيت عيد الميلاد في حفلة في بيت الفن. مؤخرًا، غنّت في "عودة الى أغاني الطفولة" الّذي حلّ محور الموعد السنوي لجورج يمّين، الشاعر الراحل الذي ربطته علاقة شخصية ومهنية وطيدة بآل بندلي. في دير مار سركيس وباخوس- إهدن حيث وقفت أكثر من ساعة، تردّد "إيماني أحلى إيمان"، أولى أغانيها، رافق غناءها صوت الحاضرين كما في "المرجوحة"، وأغاني من فيلمها "أماني تحت قوس قزح" من "غسل وجّك يا قمر" و"طير وعلّي يا حمام"، وغيرها، وصولًا الى صور أكثر قتامة عن الحرب في "ردولي بيتي"، ختامًا بـ"اعطونا الطفولة".

"بيداغوجيا" الأغاني
المراقب لريمي بندلي حينذاك، يفهم أنّها لم تنسَ موهبتها في شرنقة الطفولة، ويفرح. ففي الأداء الذي قدمته قدرات صوتية عالية، خالية من شائبة أو نشاز، تفيد لمستمعيها بأنها تدأب على تمرين حنجرتها، الأمر الذي أكّدته في قولها "تخصصت في الموسيقى، درستها ودرّستها للأطفال في السويد وفي لبنان".

إذًا، تنضم ريمي في المهجر الى عداد التربويين الذين يكرسون مهاراتهم لتثقيف الطفل موسيقيًا وغنائيًا، أشهرها ما ورد في منهج المربية والطبيبة الايطالية ماريا مونتيسوري، الذي استوحت منه ريمي مؤخرًا رزمة "الوعي الموسيقي" لدى الأطفال، بالاضافة إلى دمج هذه المادّة كمكوّن غير هامشي في برامج المدارس في السويد وسائر الدول المتقدمة.

وتتحدث الفنانة عن إخفاق للفن المحلي في تعاطيه بلسان الطفل، في تطرق مُضمَر الى مسابقات غناء الأطفال "أبتهج جدًا حين أشاهد هذه المواهب، وأشاطر أهاليهم الفرح نفسه. لكن ثمة مشكلة في المواضيع التي يتناولها الطفل في غنائه. طفل في الرابعة أو الثامنة أو حتى الثانية عشر من عمره، يغني عن العشق والغرام. ماذا يعرف عن هذه المواضيع؟ ثمة خطورة في زجه الاعتباطي داخل مواضيع سابقة لأوانها. علينا فعلًا أن ندرج بيداغوجيا غنائية تحمي الطفل وتحمي عالمه. حلمي أن يعيش الأطفال أعمارهم الطبيعية". مضيفة أنّ للطفل لسانًا يغنّي به، وعلى عاتق الراشدين يقع نقل رسائل مدروسة في الكلمات، من دون أن تنزلق الى الايعاز أو التنظير. كمثال على النمط الذي تتبناه، تستعيد تجربتها مع جورج يمّين الّذي تعتبره "الأساس" في عالمها الطفولي "لقد غنّيت بصوت الطفولة لكن جورج يمّين هو من أعطى كلماتٍ لطفولتي وطفولة أترابي. لم يكتب لي أحد كما كتب جورج يمّين". ثم تنقل أمنيتها بالعودة الى الوراء ليرسخ أكثر في وعيها، كأنّ حنوًّا أبويًّا يشدّها إليه "أتمنى لو كنت أكبر بقليل حين تعرّفت عليه لأحفظ ملامحه مثلما حفظت أغانيه. لكنني متأكّدة أنّني جلست مرّة في حضنه".

النجومية والطفولة في الحرب
إزاء حرصها على حماية الأطفال وعالمهم، يأتي السؤال: هل عاشت ريمي نفسها طفولة حقيقية؟ بمنظورها، تقول ريمي إنها كانت "أحلى طفولة" حيث مارست ما أسمته بـ"أحلى لعبة" من الممكن أن ينعم بها الطفل "هل ثمة أجمل من أن يكون المسرح مرتعًا لك؟ أغني وأرقص وأتشارك الفرح مع أصحابي. كنت فرحة لم أشعر بمسؤولية الكبار، ولا زلت أعيش الفرح نفسه. منذ قليل كنت أغني، ولا إراديًا أغمضت عيني وابتسمت، كأنني أعيش حتى اليوم المشهد نفسه".

هذا التطابق ينسحب أيضًا على مشهد الجمهور: أهل يحتضنون أطفالهم، الكبار والصغار يردّدون أغانيها. ثمّ لا يلبث أن يترك الأطفال أهاليهم ليتحلقوا حول ريمي على المسرح، تارة كجوقة وتارة يحتكر أحدهم الميكروفون. كأنّ سنوات سالت لكن الزّمن تجمّد. لا زالت استعارات وبورتريهات الفراشات والربيع والغيم والأزهار والشتاء والمراجيح والقمر، وأيضًا الحرب والبيت المفقود والحصان الخشب المحروق، تتعانق في الحالة نفسها التي ينطبق عليها ما يقيّمه الناقد الفرنسي جيلبير دوران بـ"النظام النهاري" حيث تحتشد التناقضات الصورية وتلك المقتبسة من عناصر الطبيعة. مع فارق واحد اليوم، هو أنّ اللبنانيين لا يعيشون حربًا صريحة، بل يتأرجحون بين سندان حروب داخلية باردة، ومطرقة حرب إسرائيلية يهجسون باحتمال وقوعها.

عن جديدها، تختم ريمي "أنكبّ على إعداد أغنية "سينغل" ستكون مفاجأة مختلفة عن كلّ سابقاتي"، فضلًا عن حفلات ستحييها قريبًا في تورونتو وتونس، وربما سوريا.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024