عيد فيروز… الذي لا نحتاج إليه

أسعد قطّان

الأحد 2021/11/21
يقول الوقت إنّ فيروز تبلغ اليوم عامها السادس والثمانين. لكنّي لست محتاجاً إلى عيد فيروز كي أفكّر فيها. فأنا أفكّر فيها كلّ يوم، وأعشقها كلّ يوم، وأُشعل لها شموعاً لكي تطفئها كلّ يوم، على الرغم من أنّ عيدها يأتي مرّةً واحدةً في السنة. وسأبقى ملتصقاً بهذه العادات المجنونة طوال حياتي، ولن يزيدني تقادم العمر إلّا جنوناً.


سأسمع صوت فيروز حين تخفت الأصوات الأخرى كي أبقى على قيد الحياة. وسأسمع صوت فيروز حين ترتفع الأصوات الأخرى كي ألتمس بوصلةً ما في ضجيج هذا العالم. وسأسمع صوت فيروز حين تسكت الأصوات الأخرى ويجفّ النسغ في عروق أصحابها. فماء الصوت الفيروزيّ أنّى له أن يأسن أو يجفّ.

ذات يوم، قال الموسيقار محمّد عبد الوهاب ما معناه أنّ صوت فيروز ليس من هذا العالم. ولكن فاته أن يقول إنّ الأمكنة التي يبلغها هذا الصوت، ولا يبلغها سواه، أمكنة حقيقيّة، لا مجازيّة، مع أنّها تبقى عصيّةً على منطوق اللغة، إذ ليس لها أسماء ولا تُسنَد إليها صفات. 
هذا الكلام ليس شعراً. وهو ليس تمريناً أدبيّاً يتلاعب بالمفاهيم ويستكشف احتمالات المعنى. إذا أردتم التعرّف إلى هذه الأمكنة، عليكم أن تذهبوا إلى «يارا» في صيغتها الأصليّة، وهناك تدركون كيف تتحوّل الطفولة إلى قصيدة، والقصيدة إلى سهل قمح، والقمح إلى صلاة. ويجب أن تقصدوا «بكوخنا يا ابني»، فهناك تبصرون، بمرآة العين وحدس القلب، كيف يضيء شعر ميشال طراد ثمّ ينثني، ثمّ يضيء ثمّ ينكسر، ثمّ يضيء ثمّ يسيل، وكلّ هذا في صوت فيروز، لا في أيّ مكان آخر. وإذا أردتم زيارة هذه الأمكنة، يجب أن تنصتوا بإمعان إلى مطلع دور «أنا هويت وانتهيت» كما أعادت فيروز تأويله وصوغه في مسرحيّة «يعيش يعيش»، فيما البيانو يعانق القانون ويرقص معه رقصته الأخيرة. ويجب أن تذهبوا في رحلة طويلة مع «يابا لا لا» تتعلّمون فيها كيف تمتزج سلوكيّات الاتّزان باختلاجات الجنون. وعليكم أن تسبحوا في السكون السرّيّ المنبعث من «مغرور قلبي» و«لا تندهي» و«جلنار»، وأن تسافروا إلى النزق الفيروزيّ في أنشودة «يا دارة العلالي»، التي تستحقّ أن تصير نشيدنا الوطنيّ. ويجب أن تؤخذوا بطقوس العسل الزفافيّ في «ندهتني النسمة الغريبة»، هذه المقطوعة التي لا يشبهها شيء في كلّ ما أُنتج من موسيقى في هذا الشرق من عصر ابن سريج إلى اليوم. وحريّ بكم أن تتأمّلوا كيف تذوب حروف اللغة ونوطات الموسيقى وزفرات الروح حين تغنّي فيروز للعاشق الذي يسأل عن حال الدار ومطارح اللعب، ثمّ تتحوّل، دفعةً واحدة، إلى نجمة نجوم الكتب، والوردة التي تتفتّح بين صفحاتها.
هنالك حسّ كان غائباً عن موسيقانا الشرقيّة قبل فيروز. وهذا الحسّ لن يأتي ما يشبهه بعد فيروز. هذا الحسّ اخترعته فيروز، واخترعه الأخوان رحبانيّ  لفيروز، ولفيروز وحدها. حكاية الأخوين مع فيروز تبدأ هنا. وهذه الحكاية قوامها أنّ الأخوين اكتشفا الأمكنة التي في مقدور الصوت الفيروزيّ أن يجترحها. فذهبا إلى هذه الأمكنة، وجلسا تحت زيتونها، واستنشقا قصعينها، وشربا رحيق ياسمينها. في هذه الأمكنة نصبا خيمتهما. وكان عاصي هناك يلتقط بزقه الخشبّي كأنّه برتقالة، ويقسّم على وقع الموج المخبوء في محارة من شاطئ أنطلياس، ويلحّن لفيروز دون سواها، فتنفتح السماء على نهر بلّور. وكان منصور هناك يؤلّف لفيروز أجمل القصائد التي كتبها بالفصحى، يؤلّفها لها دون سواها، ثمّ يستلّ ريشةً من صوتها ويضع على القصائد إمضاءه المزدوج. وحين آذنت النهاية بنهاية الحكاية، انفجر دماغ عاصي، وانكسرت المزهريّة، وتطاير نثار الخزف، وغادرت المرأة الساكنة في حديقة صوتها التلّة الرحبانيّة شمال بيروت مرتحلةً إلى مضارب أخرى. 


لكنّ الأمكنة لم ترحل، لأنّ أمكنة الصوت الفيروزيّ أثيريّة الجغرافيا ولا تحدّها الأمكنة. وإلى هذه الأمكنة التي يتسيّد فيها الصوت نحن نسافر كلّ يوم لئلّا تستهلكنا عبثيّة الوقت الأخرس، هذا الوقت الذي يصرّ  على أن يأخذنا إلى عيد فيروز مرّةً واحدةً في السنة. غير أنّنا، في كلّ مرّة، نهتف به أنّنا لا نحتاج إلى عيد فيروز كي نفكّر فيها، وكي نستحضرها، وكي نعيّد لها. فصوتها الذي يكسر قواعد المقولات الأرسطويّة، لأنّه لا يُنسَب سوى إلى ذاته، يغلّف يوميّاتنا، كما تغلّف الكناية المعنى كي تحميه من الرتابة. ونحن في حضرة هذا الصوت، نتحوّل إلى مريدين طيّعين طائعين نتعلّم تعاويذ الغناء ونتدرّب على طقوسه المجنونة يوماً بعد يوم، وفي كلّ يوم من جديد. ومَن كان مثلنا مصاباً بلوثة الجنون، لا يحتاج إلى عيد فيروز كي يتذكّرها…
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024