نورا فينغشدِت لـ"المدن": "محطّمة النظام" أفهمَتني ألمانيا الديكتاتورية البيروقراطية

محمد صبحي

الخميس 2020/04/23
تنتقل بيني، ذات الأعوام التسعة، من مشكلة إلى أخرى ومن منشأة اجتماعية إلى أخرى. وحش صغير، ورقيق لا يمكن السيطرة عليه. تُثقل أزمتها المتفاقمة، أمها الداخلة في علاقة علاقة عاطفية مسيئة، ولا تجد في نفسها القدرة على احتمال العيش مع تقلبات ابنتها. بيني (هيلينا زينغلوفا في أداء تمثيلي رائع)، هي بطلة فيلم "مُحطّمة النظام" للألمانية نورا فينغشدِت(*)، المُرشَّح لعشر جوائز ضمن ترشيحات جوائز الفيلم الألماني (لولا) للعام 2020(**).


ألمها كبير بقدر طاقتها، فقد تركت طفولتها الصعبة والقاسية جروحاً عميقة في نفسيتها. لم يعد لديها سوى أمنية واحدة: العودة إلى المنزل والعيش مع والدتها. لكن، هناك، لا مكان لها. وهذه مجرد واحدة من العديد من خيبات الأمل المهددة بخنقها. حين يتولّى أمر رعايتها ميكا، المتخصص في الجانحين الأحداث، كمساعد ومرشد، داعم ومعلّم؛ يبدأ نسيم عذب في تطرية حياة "المقاتلة الصغير". احتفال مأساوي صاخب وملوَّن بالعنف والعجز، وحتى الفوضى، تتكرر حلقاته، بطول الفيلم، في منوال شبه ثابت: أزمة، ثورة، هدنة، هدوء، ثم أزمة أكبر، فهروب، وهكذا. يتحوّل الفيلم إلى اختبار تحمُّل طويل المدة، بما يكفي للاقتراب من تجربة بيني، وتصديقها، والتعاطف مع "طفلة غاضبة" لا يمكن التحكم فيها ولا يمكنها العثور على موئلها في أي مكان.

"المدن" التقت المخرجة، في وقت سابق من هذا العام، فكان هذا الحوار.


- ماذا يعني مصطلح "محطمة النظام" الذي تتخذينه عنواناً لفيلمك؟

إنه ليس شيئاً يمكنني التفكير فيه، فهو ليس مصطلحاً رسمياً. يشيع استخدام مصطلح "الدخيل" بين الاختصاصيين الاجتماعيين الألمان، يشيرون به إلى حالة الطفل الذي لا يمكنهم العثور له على منزل جديد يستضيفه، وينتهي به المطاف متنقلاً من دار رعاية إلى أخرى من دون حلّ لمشكلته.

- هل نعرف كم عدد أولئك الأطفال في ألمانيا؟

كما قلت، إنه مصطلح غير رسمي، لا إحصائيات، لكن يُقدَّر أن حوالى خمسة في المئة من هؤلاء الأطفال ينتهي بهم المطاف إلى العيش خارج المنظومة الأسرية، سواء الطبيعية أو البديلة.

- لماذا اخترت هذا الموضوع؟

رغبت دائماً في عمل فيلم عن فتاة صغيرة غاضبة. لكنني انشغلت في مشاريع أخرى، من بينها فيلم وثائقي عن النساء المشرّدات. كان العمل مُحبطاً للغاية، لأنني أدركت من خلاله أن لا أفق لهؤلاء النساء. ذات يوم، جاءت فتاة في الـ14 من عمرها إلى عنبر النوم، وكان 14 عاماً هو الحد الأدنى للسنّ الذي تقبل به المؤسسة الاجتماعية لاستضافة أي فرد بلا مأوى. فكرت حينها: كيف يمكن أن تدخل فتاة صغيرة في مثل هذا الموقف؟! وأخبرني أحد العاملين الاجتماعيين هناك: نحن نعرف، إنها "محطّمة نظام"...

لا أعلم كيف يبدو المصطلح باللغة العربية أو الإنكليزية، لكن في اللغة الألمانية تمثّله كلمة شديدة الصعوبة: Systemsprenger. معها (الكلمة) أنت تتخيل شخصاً يفجّر النظام: متظاهرون راديكاليون ضد سياسات مجموعة العشرين، أو مخترقي الإنترنت، ناشط حقوقي عنيف. أما بطلة فيلمي، فهي في التاسعة من عمرها.

- لماذا أردت إنجاز فيلم عن فتاة صغيرة غاضبة؟

ربما لأنني كنت أيضاً طفلة صعبة المراس، وحشية قليلاً. كذلك، لا يوجد العديد من الشخصيات المشابهة في الأفلام حالياً. عادةً ما يقدّمن فتيات صغيرات، لطيفات، وهادئات، بعيون كبيرة يراقبن العالم حولهن بشكل سلبي.


(هيلينا زينغلوفا)

- هل هؤلاء الدخلاء علامة على أن نظام الرعاية الاجتماعي الألماني لا يعمل بالشكل المطلوب؟

نعم، إنه لا يعمل بالشكل المرجو مع بعض الأطفال، خاصة بالنسبة لأولئك الذين لا يمكن تضمينهم في الإطارات المحددة مسبقاً. في ألمانيا، نحن نحب البيروقراطية عندما تنشأ مشكلة، نحن أول من يبحث عن حلول ضمن أُطُر مؤسسات وقواعد قائمة. لسوء الحظ، هذا لا يساعد دائماً، فالحياة لا تتناسب دائماً مع القوالب الجاهزة. نفتقر الميل إلى الحلول غير المتوقعة. خذ "بيني" مثلاً، فبعد العديد من التجارب الفاشلة في دور رعاية الأطفال والطرق المعتمدة؛ وجدت مكاناً يناسبها، لكن القواعد تقول بعدم وجوب استمرارها في ذلك االمكان. 

مشكلة أخرى، بالطبع، هي المال. لا أعرف كيف هو الحال في بلدك، لكن في ألمانيا يذهب القليل من الأموال إلى النظام الاجتماعي كل عام. والتعامل مع حالات فردية أكثر كُلفة. مجموعات الأطفال اليوم لا تقلّ من عشرة أعضاء، الأمر أشبه بأن تنشأ مع تسعة أقارب لا تعرفهم.

- تقدّم قصة فيلمك صورة دقيقة لذلك القصور في عمل نظام الرعاية الصحية الألماني. لماذا كان مهماً إظهار كل تلك التفاصيل البيروقراطية؟

أعتقد أننا نعيش حقًا في ديكتاتورية بيروقراطية، فهناك قواعد لكل شيء. بعد العرض الأول، اتضح لي أن الفيلم يتعلق أيضاً بشيء مختلف تماماً، وهو حاجة الناس إلى الحب غير المشروط، الذي هو بالطبع أمر عالمي جداً. لكني لم أخطط لذلك حقاً...

شاهدت الناس في عروض الفيلم في كوريا والبرتغال وفنلندا، ورأيت ردّ الفعل العاطفي نفسه مراراً وتكراراً، وأدركت بطريقة عملية كيف تقرِّب الأفلامُ الناسَ من بعضهم البعض، على الرغم مما يبدو أحياناً من أننا لا نملك شيئاً مشتركاً. يمكن لبعض الأفلام أن تعيدنا إلى جوهر إنسانيتنا.


(نورا فينغشدِت)

- ربما لا يعرف كثيرون أنه في بلد مثل ألمانيا يوجد أشخاص لا مكان لديهم يذهبون إليه للحصول على الرعاية. هل تعتبرين فيلمك سياسياً؟

 حقيقة أن بعض الناس مستبعدون من نظام الرعاية الصحية النفسية والعقلية، حتى في دولة رفاه مثل ألمانيا، في الواقع غير معروفة لنا، نحن الألمان، وآمل أن يسهم هذا الفيلم في مزيد من الوعي بالوضع. الناس الذين يعملون في مجال الرعاية الصحية يعرفون ذلك، بالطبع، لكن الأمر ينتهي عند هذا الحد. لذا فالقصة لها بُعد سياسي صغير، لكن هذا الجانب ليس حاسماً بالنسبة لي، وليس الغرض منه دفع القصة نحو نتيجة محددة. ربما في يوم من الأيام، أودّ أن أصنع فيلماً عن ضفدع في فنائي الخلفي، وسيكون سياسياً أيضاً.

أحب أفلام جوردان بيلي. أحب ذكاءه في خلط الرعب بالسياسي باستمرار. أودّ أن أفعل ذلك في وقت ما، بما إنني لا أرى نفسي صانعة أفلام كوميدية في يوم من الأيام. أحب الأفلام التي تُخرجك من "منطقة راحتك"، الأفلام حيث يمكنك فجأة التعاطف مع شخص لا تتوقعه على الإطلاق، الأفلام التي تدفع المشاهدين أبعد قليلاً مما يعتقدون أنهم يعرفونه عن أنفسهم.

- يعطي فيلمك مساحة كبيرة للمسؤولين والمعلمين الذين تتعامل معهم "بيني"..

في المجتمع الألماني، لا يحظون بالاحترام على الإطلاق، بسبب مداخيلهم المنخفضة. عملت على الفيلم أربع سنوات، وفي المَرافق والمنشآت التي مرّت بها "بيني"، نمتُ وعشتُ وعملتُ بنفسي، في دور الأيتام ومراكز الأزمات وعيادات الأطفال النفسية والمدارس العملية. بالإضافة إلى ذلك، قابلت حوالي ستين شخصاً مختلفاً، ليس فقط اختصاصيين اجتماعيين، لكن أيضاً أطباء ومسؤولين وزاريين. واستخدمت كل هذه التجربة في الفيلم. كان معظم المعلِّمين متعاطفين، فقد أحبّوا عملهم وكانوا يدلّلون على ذلك فعلياً، لكن البعض منهم رأى أنهم فقدوا قوتهم وتضاءل صبرهم. سوف تحترق بسهولة في هذه المهنة.

- الصبر عنصر رئيسي في الفيلم. في نهاية المطاف، يبدو أن الجميع استسلم أمام حالة "بيني" المستعصية.

يحتاج العاملون في تقديم الخدمات الاجتماعية إلى التواصل مع الأطفال لمساعدتهم، لكنهم بحاجة أيضاً إلى الحفاظ على مسافتهم منهم. وإلا فسوف يصيبهم الجنون. على سبيل المثال، يجب عليهم ألا يأخذوا الأطفال الجانحين إلى منازلهم، تحت أي ظرف. إنها مسألة توازن، ومعظم الأشخاص الذين قابلتهم يعانون من ذلك صعوبة بالغة. لا أعرف حلّاً. أودّ معرفة كيفية تحقيق ذلك حتى أتمكن من تبنّي "بيني". ما زلت آمل أن تنجح المحاولة، حتى تتمكن من النجاة والعيش في أمان. أقول لنفسي بأن الأمر قد لا ينتهي بها في الشارع.

- بطلتك الصغيرة، هيلينا زينغلوفا، مدهشة. لم تغادرني منذ شاهدت الفيلم. أتخيّل مدى صعوبة العثور على طفلة تلعب دور فتاة غاضبة على الدوام، تصرخ وتكسر الأشياء.

ربما تستغرب حين أقولك لك إن الأمر لم يكن بهذه الصعوبة. كانت هيلينا هي الاسم السابع في تجارب الكاستينغ. لمدة أربع سنوات من الإعداد للفيلم، اعتقدت أنني كتبت ما كتبته عبثاً وأنني لن أجد أي شخص يلعب دور "بيني". وإذا حدث أن وجدت شخصاً كهذا، فلن يقبل والداه. لذلك، قررنا البدء في عملية الكاستينغ قبل سنة من موعد التصوير، وفجأة كانت الفتاة السابعة هي الفتاة المناسبة. حينها، فكّرتُ في التوقف عن البحث واستكمال باقي الأسماء، لكني تراجعت. جرّبنا مع 150 طفلة أخرى، لكن أحداً لم يهزم هيلينا.

كان الشيء المهم بالنسبة لي في عملية الاختيار ألا تُمثَّل "بيني" على الشاشة فقط كفتاة مشحونة بطاقة الغضب، بل أن تشكّل خطراً حقيقياً. حتى يكون مفهوماً خوف الشخصيات البالغة التي تخشى ما قد ترتكبه. في الوقت نفسه، كنت بحاجة إلى صمتها وإظهار هشاشتها.

هيلينا وأنا تمرّنا لمدة ستة أشهر. في البداية بخفة، ذهبنا للتسوق واخترنا ما سترتديه بيني، الملابس، الألوان. اشترينا لها لعبة. ناقشنا مواقف مختلفة: كيف سيكون رد فعل هيلينا عليها، وكيف سيكون الأمر مع "بيني". حاولت تعليمها التمييز بين الشخصيتين وفصلهما عن بعضهما البعض. مع بداية التصوير، كانت هيلينا تعرف عالم "بيني" تماماً.

- الفيلم مليء بالطاقة، حتى على مستوى بنائه.

إنه صورة "بيني" نفسها. أردنا إظهار أن طاقتها تتخطى جميع الحدود المقبولة اجتماعياً. ليس فقط من خلال الموسيقى أو المونتاج، ولكن عبر أفلمة السيناريو نفسه. الفيلم طويل قليلاً لسبب، وهناك الكثير من الشخصيات، والقليل من البيئة. ثلاثة أطراف. كل شيء نمدّه لنهايته. وفي اللقطة الأخيرة بيني "تحطّم" الفيلم نفسه.

- بحكم الأمر الواقع، ستتخلص "بيني" من النظام في النهاية، بإرسالها إلى كينيا. لا أستطيع تخيُّل ما قد يحدث لها هناك.

في الواقع، يُرسَل "محطمي االنظام" الألمان إلى كينيا وإسبانيا أو سيبيريا. يعتقد الاختصاصيون الاجتماعيون أنه من الجيد أن يدخل الطفل في بيئة مختلفة تماماً، وعادة ما يكون ذلك في مزرعة للحيوانات، بعيداً من ضغوط المدرسة والأصدقاء الذين يكونون قد عرفوا بالفعل طريقهم لتعاطي المخدرات. الهدف هو تغيير روتين الطفل، وبالتالي تغيير سلوكه. في بعض الحالات، يساعد ذلك، وفي حالات أخرى، تكون النتيجة مأساوية. مثلاً، وجد طفل ألماني نفسه منتهياً في سجن سيبيري.

اليوم، يتخلّى النظام عن هذه الممارسة في الحالات الأصغر سناً، وأصبح من يُرسل من الأطفال إلى الخارج يتراوح عمره بين الثانية عشرة والرابعة عشرة.


("بيني" والحب المفقود)

- الفيلم أيضاً يدور حول فقدان الحب غير المشروط، "بيني" ترفضها والدتها...

عندما نولد، نعتمد كلياً على والدينا. من دونهم لن ننجو في إكمالنا حياتنا. وإذا انكسرت الرابطة في وقت مبكر جداً، فقد تؤثر في حياة الشخص. لذلك، كان من المهم للغاية بالنسبة للفيلم أن يفهم بشكل صحيح شخصية الأم. جعلها وحشاً أو تكريه المشاهد فيها، سهل للغاية ومغرٍ أيضاً. لكن هذا لن يحدث في فيلمي، ربما في فيلم شخص آخر.

أردتُ إظهار حبّها لابنتها، والعكس، ملازماً لصعوبة التعامل مع حالة "بيني". في الوقت نفسه، الأم لا تفعل ما يتوجّب عليها فعله، وتتخلّى عن ابنتها. في المقابل، تبقى "بيني" على حالها: تحب أمها للنهاية.

- قد يبدو السؤال كليشيه، لكن من الضروري طرحه: هل تحاولين تغيير واقع النظام الاجتماعي الألماني بفيلمك؟

لا أعرف ما إذا كان الفنّ يمكن أن يغيّر أي شيء بشكل مباشر. أفضّل أن أكون أكثر تشككاً. لكن في الوقت ذاته، يجب على الفنانين التركيز على القضايا الاجتماعية. أردت توضيح كيف يُعامل الأطفال العدوانيون حقاً في ألمانيا. إنهم يطردون مثل هذا الطفل أولاً من رياض الأطفال، ثم من رياض أطفال أخرى، وعندما يدخل المدرسة، يكون لديه "سجل" في أوراقه، وبالنتيجة، يكون التعامل معه أكثر صرامة.

الجميع يريد التخلص من المشكلة، لا حلّها. أؤمن بأن عنف الأطفال دائماً، هو في جوهره نداء لطلب المساعدة. يجب أن نتحدث إليهم، ونحاول دمجهم في محيطهم، ومعرفة مما ينبع غضبهم، لا أن نرسلهم بعيداً.

من المحتمل أن بإمكان الفنّ تغيير منظور الناس. في الواقع، سيكون كافياً إذا لم نحكم على الأطفال على الفور، وبدلاً من ذلك فكّرنا في وضعهم. التغيير المؤسسي يمكن أن يأتي بعد ذلك. في ذلك، ربما يصبح الفنانون هم أيضاً نوعاً من "محطمي النظام". أعتقد أيضاً أن الأفلام التي تنشغل بقشرة المسألة، وتنتقد سلوك مقدّمي الرعاية أو أفراد الأسرة، وتقدّم خطاباً أخلاقياً؛ عادةً ما تكون مملة وغير مثيرة للاهتمام. وأنا لم أرد إنجاز فيلم من هذا النوع.

(*) نال الفيلم أكثر من عرض عربي، في بيروت والقاهرة والجونة.

(**) نورا فينغشدِت (1983، براونشفايغ - ألمانيا) درست الإخراج السينمائي في أكاديمية بادن- فورتمبيرغ، بين العامين 2008 و2017، متنقلة بين ألمانيا والأرجنتين. فيلم تخرُّجها، "من دون هذا العالم"، وثائقي طويل صوِّر في الأرجنتين، حول المجتمع الديني المحافظ للمستعمرين القدامى وعزلتهم عن العالم الحديث. "مُحطّمة النظام" هو أول أفلامها الروائية الطويلة. تعيش حالياً مع عائلتها في هامبورغ.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024