في ذكرى 17 تشرين.. "كلنا نازلين"؟

رشا الأطرش

الجمعة 2021/09/24
يحاول بعض ناشطي 17 تشرين العودة إلى تمارينهم. بعدما أقصتهم عن ساحاتهم عوامل كثيرة وقاهرة، ليس أكثرها توحشاً شبيحة الأحزاب، ولا أقلّها جائحة كورونا مضافة إلى الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، ومقدار مُعتبر من الشرذمة السياسية والصراعات بين المجموعات الثورية نفسها،.. يبدو أن بينهم اليوم مَن يعاود تليين مفاصل التنسيق، فيطلق نداء "اتحاد ساحات الثورة" تحت شعار "كلنا نازلين.. من 1 إلى 17 تشرين"، للدعوة إلى اعتصامات يومية في ساحة رياض الصلح، بالإضافة إلى تحركات يومية موازية في طرابلس وصيدا وصور وبعلبك وتعلبايا وعاليه...

ستكون مثيرة للاهتمام مراقبة الاستجابة و"الحشد"، في بيروت وخارجها، وإن كان قد مات العَصَب نهائياً، أم أنه سيتجدد، هزيلاً بائساً، أو على شيء من النشاط، في الساحات التي جعلتها تظاهرات تشرين الأول 2019 تعيد اختراع أسمائها ووظائفها وجدواها وأشكال تجمعاتها. في النهاية، ما المعارضة إن لم تحتلّ الفضاء العام؟ لكن السؤال الأهم: ما المعارضة الفاعلة إن لم تستكمل هذا الاحتلال بإفراز كيانات ظِلّ متماسكة، تعلنها رديفة وبديلة حقاً للعصابة الحاكمة؟ وهل ستستطيع الآن ما لم تستطعه قبل عامين عندما كانت في عز زخمها؟ وما الجدوى من تحركات معروفة الأجَل، تُحدد نهايتها سلفاً، في 17 تشرين الأول 2021، ومن قبل أن تبدأ في إحياء الذكرى الثانية لثورة مُجهَضة على غرار ما يؤبَّن فقيد غالٍ في ذكرى رحيله؟

الإجابات المرجّحة على هذا التساؤلات، ربما لا تفضي إلى ركيزة تفاؤل، ومثلها الصورة "الماكرو" الكبرى المهيمنة اليوم على عموم المشهد اللبناني، من انفراط الدولة ومقومات السيادة حتى بمعناها الخَدَميّ "البسيط"، إلى الحصيلة المخزية التي انتهى إليها شدّ الحبال حول تشكيل الحكومة الجديدة، مع التسويات الدولية والإقليمية المتمظهرة في الساحة اللبنانية، وقوة وصلابة المنظومة في وجه كل محاولات التغيير وعلى رأسها عمامة حسن نصر الله، وصولاً إلى القوى المدنية المُنهَكة عموماً، والتي باتت لا تجد ما تتكئ عليه لتكمل ولو جزءاً مما بدأته أو حتى تصمد في ما تقدّمت إليه من مَواقع.

لكن الصُّور الصغرى، الإنجازات "الميكرو"، ليست على الدرجة نفسها من القتامة. وهو نوع الإنجازات الذي لا يستحيل البناء عليه في المدى الطويل، أقلّه لحجز مقعد على طاولة التفاوض للمتضررين من المنظومة والأزمة التي راكمت عوامل انفجارها منذ عقود.

لعل أهم تفاصيل "الميكرو إنجازات" تمثلها تحركات وضغوط يثابر فيها، بعزيمة وذكاء مدهشَين، أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت، الذين، وإن بدوا وحدهم في هذه المعركة مع وحوش عملاقة وكاسرة، فإنهم يتمتعون بدعم شعبي وإعلامي لا يُستقلّ به. وهناك التغيير الذي تحقق فعلاً، نتيجة تركيز مجموعات نشيطة ومنظّمة، واعية وواقعية في السياسة، على العمل في ماكينات انتخابات نقابة المهندسين، وقبلها انتخابات نقابة المحامين، إضافة إلى ما تشكّل واستمرّ واشتغل من أجسامٍ نقابية بديلة لتلك التي استحوذت عليها أحزاب السلطة، من قبيل "تجمع نقابة الصحافة البديلة". وكذلك تغيير على الجرّار في عدد من الجامعات وأنديتها، انتخاباتها الطلابية وحيويتها الداخلية التي لا تفشل في إفراز مجموعات ووجوه ذات خطاب يحاكي تطلعات شارع عريض وبلُغة مأمولة في الشأن العام. ولا يُستهان بحضور "رابطة المودعين"، تأثيره التوعوي، وتحوّله مرجعية ومصدر دعم حقوقي وقانوني يقدمه -ما استطاع- لأصحاب الودائع المسروقة في المصارف اللبنانية. كما أنه ليس قليلاً ولا تفصيلاً، الضخّ التعاضدي في الخطاب ضد السلطة الحالية، يساهم فيه إعلام مستقل وبعض الإعلام التقليدي، رغم هنّات وسقطات واستنسابيات لا ضير أن تبقى في ضوء النقاش والنقد...

إنها واحات صغيرة في صحراء الإفلاس المالي والسياسي والأمني اللبناني. ربما لا تتوافر قنوات وَصل في ما بينها. ربما يجفّ بعضها، وينتعش بعضها الآخر، إلى حين. لكنها لم تنقرض، ليس تماماً. وإن كان الكثير من "قوى الثورة" قد خذل نفسه وعموم اللبنانيين، وانجرف بعضه الكثير بخلفيات 8 و14 آذار، وفاحت رائحة هذا بالفساد، وذاك بالاحتساب على السلطة وأجهزتها ومليشياتها،.. ففي المقابل، العدو ليس بسيطاً. جذوره ضاربة في الأرض، وشبكاته متضافرة ومعقّدة. أذرعه – رغم خصوماتها المتعددة – تتّحد بخطط دفاعية شرسة حينما يستفحل الخطر في وجه الكلّ المجرم القذر، سواء في ملف المرفأ أو المصارف أو القطاع العام. والعدو ليس وحده. أزمة المحروقات والدواء والتعليم والاستشفاء والكهرباء والدولار... الأزمات التي صنعها العدو المتمرّس في شرّه، وكبّرها بأيديه الكثيرة، صارت كياناً بذاتها، ومسخاً إضافياً يفرغ الساحات بمؤازرة التعب واليأس، الإفقار المتزايدة وطأته، والخوف والهجرة. وذلك، فيما العالَم الكبير لا يأبه، أو يأبه لزواريب محددة تهمّه في ملفات إيرانية وسورية، وتحت عناوين استثمارات ولاجئين...

"كلنا نازلين؟".. سنعرف الإجابة قريباً، ولعلنا نعرفها من الآن، ومن دون ملامة أو تنظير بَعدَ أثمان باهظة تكبدها اللبنانيون منذ عامين وما زالوا يتكبدونها. لكنها دائماً مناسَبة لإعادة التفكير، ربما.. "بعد قليل، بعد عام، بعد عامين وجِيل"...   
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024