حال المسلمين المصريين في ضوء خطاب ماكرون: مدخل الزملوط

ناصر كامل

الثلاثاء 2020/10/27
يتسارع؛ بصورة دراماتيكية، إيقاع الأزمة التي بدأت بخطاب إيمانويل ماكرون، والتي تكتسب؛ كل ساعة، أبعاداً متعددة، دينية واجتماعية مركّبة، وألواناً سياسية فاقعة، وقد يكون من الأصوب البحث عن مدخل هادئ لمقاربتها.

قبل بضع ساعات من شروع ماكرون في عرض خطته (الجمعة 2 أكتوبر) كان الملايين من المسلمين المصريين يستمعون لخطباء المساجد يلقون خطبة موحدة عنوانها "متطلبات الولاء والانتماء للوطن". نص الخطبة كان مقرراً ومنشوراً قبل بضعة أيام، ولوهلة، وإذا كان المرء متعجلاً، فقد يجد تشابهاً بين الكلمات المقررة من قبل وزارة الأوقاف المصرية وبين كلمات الرئيس الفرنسي.

سيكون متعجلاً من يرى تشابهاً بين كلمات الأئمة المصريين وهم يقولون للمصلّين "إن العمل على تقوية شوكة الدولة الوطنية وترسيخ دعائمها، مطلب شرعي ووطني، وكل من يعمل على تقويض بنيان الدولة أو تعطيل مسيرتها، أو تدمير بناها التحتية، أو ترويع الآمنين فيها، إنما هو مجرم في حق دينه ووطنه معاً"... وبين كلمات ماكرون وهو يشدد على قيم الجمهورية. وسيلتبس عليه الأمر، فلا يعرف الفرق بين الدور الذي يجب أن تقوم به المؤسسات التعليمية والتربوية في الخطابين. فكلاهما يرى أن دورها "أن تغرس في أبنائنا الولاء والانتماء للوطن، وتدربهم عملياً على حبه، وتنشئهم على القيم النبيلة، ومكارم الأخلاق".

لكن حتى المتريث المدقق، قد يتوهم تطابقاً بين كلمات ماكرون، وخطبة الجمعة يوم 11 سبتمبر، والمعنونة "تقدير المصلحة وتنظيم المباح"، حتى وإن كان قد انتبه إلى أن سياقها مرتبط بتداعيات قضية البناء المخالف للقانون. فكلمات الأئمة قاطعة وعامة، وهي تؤكد أنه "إذا تعارضت المصلحة العامة مع المصلحة الخاصة قُدمت المصلحة العامة على الخاصة؛ ذلك أن المصلحة العامة تشمل كل ما يحقق إقامة الحياة من أمور مادية، ومعنوية، تجلب الخير والنفع للناس، وتدفع عنهم الشر والمفاسد، وتحقق حماية الوطن واستقراره وسلامة أراضيه".

وقد يتوهم؛ المتريث المدقق، أن هناك تطابقاً واضحاً بين خطة ماكرون والخطبة الموحدة لوزارة الأوقاف في تأكيدها على أن "تنظيم المباح بما يتناسب مع تحقيق النفع العام فيه درء للمفاسد، وجلب للمصالح، وأن الأولوية لإزالة كل ما يشكل خطراً على الحياة، ثم لما يحقق مصالح الناس". لكن ذلك المتريث المدقق سيتوقف، بالتأكيد، وإن يكن مرتبكاً، أمام قول خطيب الجمعة في مصر "أن تقدير المصلحة المعتبرة مسؤولية ولي الأمر؛ ذلك أنه أعلم بالمصلحة العامة، وأكثر إلماماً بجوانب الأمور وما يترتب عليها من تبعات، لذا يقول الحق سبحانه: "يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم".

فهل ماكرون بالنسبة إلى مسلمي فرنسا هو "ولي الأمر"؟ وإن لم يكن هو، فمَن يكون؟

هذه معضلة تتطلب محاولة حلها الإجابة، أولاً، على سؤال: ما الجوهري في خطة ماكرون؟ وربما تكون الإجابة: إن الجوهري يكمن في محاولة تنظيم الشعائر الدينية الإسلامية، ومجمل النشاط الديني في فرنسا، وهو ما توضحه بجلاء كلماته هذه: "تركيا والمغرب والجزائر هي الدول التي ترسل الأئمة والمقرئين. قررنا الآن أن ننهي هذا النظام بطريقة ودية مع تلك الدول. في مرحلة انتقالية؛ وبالتدريج، خلال أربع سنوات، تقريباً، نحن من سيكوّن هؤلاء الأئمة والمقرئين". تكوين الأئمة والمقرئين "وطنياً"، ومراقبة تدفق التبرعات، وملاحظة دور المؤسسات التعليمية، وأخيراً محاولة بناء هياكل موحدة للجمعيات الإسلامية، هذه هي؛ باختصار ممل، ما يمثل خطة الرئيس الفرنسي.

وتتطلب محاولة حل المعضلة، ثانياً، النظر إلى دراسة "لمن المنابر اليوم؟- تحليل سياسة الدولة في إدارة المساجد"، التي كتبها عمرو عزت، وأصدرتها وحدة الحريات المدنية، في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، في أغسطس 2014. فالدراسة ترسم إطاراً تحليلياً لسياسات الدولة المصرية في إدارة المساجد، يرتكز على ملاحظة ثلاثة افتراضات تغلب على هذه السياسات، وهي: افتراض الوحدة الدينية للمسلمين، وأن الدولة بمثابة إمام وممثل لجماعة المسلمين الموحدة، وهي (الدولة) مراقب لحدود النشاط الديني الإسلامي.

وتذهب الدراسة إلى أن هذه الافتراضات تواجه واقعاً مختلفاً. فهناك تنوع ديني داخل الإسلام، وجماعات دينية/سياسية تختلف في المذهب العقدي أو الفقهي، أو لها رؤى سياسية متباينة ومتصارعة ومواقف متباينة من السلطة القائمة، وهذه الجماعات لا ترضى بدور الدولة كإمام يتولى إدارة شؤونها الدينية وتوفر بنفسها بدائل له أو تتجاهله، وبعض هذا النشاط الديني أو السياسي يعمل خارج حدود النشاط الديني الإسلامي المسموح به قانوناً، والذي يمثل تهديداً دينياً أو سياسياً للتصور الديني/السياسي المرغوب من قبل الدولة، ويحتفظ بمساحات من التفاوض والتواؤم أو يمر بمراحل من الصدام والصراع.

دراسة "لمَن المنابر اليوم؟" تبحث في الشأن المصري، وتتوقف عند منتصف 2014، وقد جرى الكثير من وقتها، وهي تلقي ضوءاً كاشفاً على دلالات خطة ماكرون وأبعادها، وأوجه تشابهها، ومفارقاتها، للحالة المصرية. فمن الواضح بجلاء أن التنوع داخل الإسلام في فرنسا هائل، لا يقاس طبعاً بمصر، ودور الدولة هناك شبه منعدم؛ بحكم القانون، وما خطة ماكرون إلا محاولة لإيجاده، وهو لا يقترح إلا أقل القليل مما قامت به وزارة الأوقاف منذ صيف ذلك العام، حين قررت ضم جميع المساجد والزوايا في مصر إليها، وقدّر عددها بما يتجاوز المئة ألف، كما ضمّت العاملين فيها، ووضعت شروطاً وقيوداً على تلقى الجمعيات (المشهرة والمراقبة قانوناً) للتبرعات. ثم قررت "الأوقاف" المصرية، توحيد خطبة الجمعة في جميع مساجد مصر، وجاء في تبيان "شرعية" ذلك القرار أن "الخطبة لا تنعقد إلا في المسجد وبإذن من الإمام أو نائبه، فإن القياس والمصلحة يقتضيان الآن جمع الشمل وتوحيد الكلمة والاجتماع على كلمة سواء، ومن هنا قررت وزارة الأوقاف توحيد خطبة الجمعة على مستوى الجمهورية في جميع مساجد مصر". ووفق تلك الخطة تنشر الوزارة نص الخطبة الموحد يوم الإثنين من كل أسبوع، مرفقة بالنص التالي: "تؤكد وزارة الأوقاف على جميع السادة الأئمة الالتزام بموضوع الخطبة نصًا أو مضمونًا في أقل تقدير، وألا يزيد أداء الخطبة عن عشر دقائق للخطبتين الأولى والثانية، مراعاة للظروف الراهنة، مع ثقتنا في سعة أفقهم العلمي والفكري، وفهمهم المستنير للدين، وتفهمهم لما تقتضيه طبيعة المرحلة".

قبل ذلك الصيف بنحو عام تقريباً، قرر وزير الأوقاف منع غير الأزهريين من الخطابة في المساجد الحكومية والأهلية، وذلك في سياق حملة لمنع تسخير المنابر للترويج لمواقف سياسية، كما أوضح الوزير، وذلك بتشكيل لجنة مخصصة للمساجد الكبرى لمتابعة ما يحدث في بعضها من الخروج عن دورها في الدعوة والتوجه بها إلى العمل السياسي أو الحزبي، وتحويل أي مسؤول عن هذه الأعمال للمساءلة حال ثبوت قيامه بالإساءة لاستخدام المنابر.

ومنذ ذلك الصيف (2014) لم يمر أسبوع من دون أن تقوم الوزارة بإيقاف عدد من الأئمة عن الخطابة، والتحقيق معهم ومجازاتهم. وفي شهر فبراير الماضي، كشف مسؤول كبير أن "الوزارة أوقفت 1500 إمام عن الخطابة وحولتهم إلى أعمال إدارية، لأن لديهم أفكاراً متطرفة"، مشيرًا إلى أن هؤلاء الأئمة، رغم حصولهم على شهادة أزهرية، لم يتربوا في كنف الأزهر، وحصولهم على الشهادة كان مجرد رخصة لاعتلاء المنبر.

معضلة ماكرون مستمرة معنا، وتتعاظم بعدما عرفنا من وزارة الأوقاف المصرية، في تبريرها لشرعية الخطبة الموحدة، أن "جمهور الفقهاء (يجمع) على أن الخطبة (خطبة صلاة الجمعة) لا تنعقد إلا في المسجد الجامع وبإذن من الإمام أو نائبه".

معضلة ماكرون تحتاج بحثاً، خصوصاً كلماته عن المخاطر التي تواجه فرنسا ومسلميها، ما يسميه مرة: النزعات الانفصالية، ومرة: الانعزالية الإسلامية، تلك التي تسعى إلى "إقامة نظام موازٍ". وسيكون مفيداً في ذلك البحث تذكّر أن وزير الأوقاف المصري، الدكتور مختار جمعة، قال في خطبة الجمعة يوم 16 أكتوبر؛ أي بعد أسبوعين على خطاب ماكرون: "نحتاج أن نقوي دولنا ونقوي مؤسساتنا الوطنية ولا نسمح لتلك الكيانات التي كانت تريد أن تصنع كيانات موازية لا تنشأ إلا على أنقاض الدول، بتعطيل مسيرة البناء".

ومفيد أيضاً، استدعاء أخبار ما جرى في ذلك المكان الهادئ النائي: محافظة الوادي الجديد (جنوب غربي القاهرة)، في اللحظات نفسها التي كان الوزير يتحدث فيها عن خطر الكيانات الموازية، أن اللواء الزملوط "استجاب لمطالب عدد من المواطنين المنتفعين بأحد أراضي صندوق استصلاح الأراضي بمدينة "موط"، بمحاسبتهم في تحصيل الإيجار كصغار المنتفعين وليس كبار المنتفعين"، وأنه "استمع لمشكلات وشكاوى المواطنين ووجه المسؤولين بسرعة حلها"، وأنه "كلف مركز الداخلية التنسيق مع فرع الهيئة العامة للطرق لمد مواسير صرف صحي أسفل طريق الثورة الخضراء، لتوصيل الخدمة لأحد المواطنين في المنطقة". لكن الصحف والمواقع التي نشرت الخبر، لم تذكر كيف عالج اللواء المحافظ المشكلة التي تكشفت لمواطني المحافظة قبل يوم واحد فقط، حيث "أصدرت مديرية الأوقاف في المحافظة قراراً بحظر استخدام مكبرات الصوت الخاصة بالمساجد في الإعلان عن حالات الوفاة، وشددت على اتخاذ إجراءاتها الحاسمة اتجاه أئمة وعمال المساجد غير الملتزمين بهذا القرار". وفي حين ذكرت الصحف أن ذلك القرار "لاقى حالة كبيرة من الاستياء، نظراً لارتباط الأهالي الشديد بضرورة إعلان حالة الوفاة من خلال مكبرات الصوت في المساجد لإعلام الأهالي بمواعيد تشييع الجنازات وتوجيه المواطنين لأماكن الدفن وقبول العزاء"، لفتت إلى أن المواطنين طالبوا بضرورة العدول عن هذا القرار، فيما لجأ عدد آخر إلى الإعلان عن حالات الوفاة عبر شبكات التواصل الاجتماعي كبديل لمكبرات الصوت في المساجد.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024