معرّة أبي العلاء

محمود الزيباوي

الثلاثاء 2020/01/28
عادت المعارك لتحتدم من جديد من حول معرة النعمان، ثاني أكبر مدن محافظة إدلب، في شمال غرب سوريا. تقع هذه المدينة بين حماه وحلب، وتتربع اليوم منطقة جغرافية بالغة الحساسية، وهي بحسب كتب التراث "أخصب بلاد الله وأكثرها أرزاقاً"، فيها نشأ أبو العلاء المعري، وفيها قبره. 
في القرن العاشر، ذكر الحسن بن أحمد المهلبي معرّة النعمان في "المسالك والممالك"، وقال في وصفها: "مدينة جليلة العمارة، كثيرة الفواكه والثمار والخصب، وشرب أهلها من الآبار". وفي القرن الحادي عاشر، مرّ الرحالة الفارسي ناصر خسرو في هذه المدينة، وكتب في "سفرنامه": "بلغنا معرة النعمان، وهي مدينة عامرة ولها سور مبني، وقد رأيت على بابها عمودا من الحجر عليه كتابة غير عربية فسألت ما هذا فقيل إنه طلسم العقرب حتى لا يكون في هذه المدينة عقرب أبدا ولا يأتي اليها". وأضاف: "ورأيت أسواق معرة النعمان وافرة العمران وقد بُني مسجد الجمعة على مرتفع وسط المدينة بحيث يصعدون اليه من أي جانب يريدون، وزراعة السكان كلها قمح وهو كثير، وفيها شجر وفير من التين والزيتون والفستق والعنب، ومياه المدينة من المطر والآبار".

وقال ناصر خسرو في ختام هذا الحديث: "وكان بهذه المدينة رجل أعمى اسمه أبو العلاء المعري، وهو حاكمها، وكان واسع الثراء عنده كثير من العبيد وكان أهل البلد خدم له، أما هو فقد تزهد واعتكف في البيت، وكان قوته نصف من خبز الشعير لا يأكل غيره، وقد سمعت أن باب سرايه مفتوح دائما، وأن نوابه وملازميه يدبرون أمر المدينة ولا يرجعون إليه إلا في الأمور الهامة، وهو لا يمنع نعمته أحدا، يصوم الدهر ويقوم الليل ولا يشغل نفسه مطلقًا بأمر دنيوي، وقد سما المعري في الشعر والأدب إلى حد أن أفاضل الشام والمغرب والعراق يقرون بأنه لم يكن من يدانيه في هذا العصر ولا يكون، وقد وضع كتاباً سماه الفضول والغايات ذكر به كلمات مرموزة وأمثالاً في لفظ فصيح عجيب بحيث لا يقف الناس إلا على قليل منه ولا يفهمه إلا من يقرأه عليه، وقد اتهموه بأنه وضع هذا الكتاب معارضة للقرآن، يجلس حوله دائماً أكثر من مائتي رجل يحضرون من الأطراف يقرءون عليه الأدب والشعر، وسمعت أن له أكثر من مائة ألف بيت شعر. سأله رجل: لم تعط الناس ما أفاء الله تبارك وتعالى عليك من وافر النعم ولا تقوت نفسك؟ فأجاب: إني لا أملك أكثر مما يقيم أودي. وكان هذا الرجل حيا وأنا هناك".

في منتصف القرن الثاني عشر، ذكر الشريف الإدريسي، بدوره، المعرة في "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، حيث استعاد ما قيل في وصفها: "هي في ذاتها كبيرة عامرة، كثيرة المباني والأسواق، وليس بأرضها ولا في شيء من نواحيها ماء جار ولا عين، والغالب على أرضها الرمال، وشرب أهلها من ماء السماء، وهي كثيرة الخير والشجر من الزيتون والكروم والتين والفستق والجوز ونحو ذلك". وفي عشرينات القرن الثالث عشر، قدّم يعقوب الحموي تعريفا مطوّلا بالمعرة في "معجم البلدان"، واستهلّ حديثه بـ"ذكر اشتقاق المعرّة"، واختلاف الآراء في هذا الشأن، ثم ذكر النعمان، وقال أنه النعمان بن بشير، الصحابيّ الذي "اجتاز بها، فمات له بها ولد فدفنه، وأقام عليه فسمّيت به"، ثم استطرد وأشار إلى نعمان آخر من بني تنوخ، "وهو الملقب بالساطع"، وقال أن المدينة على ما يظن بمسمّاة باسم هذا النعمان التنوخي.

كتب يعقوب الحموي في وصف المعرّة: "هي مدينة كبيرة قديمة مشهورة من أعمال حمص بين حلب وحماة، ماؤهم من الآبار وعندهم الزيتون الكثير والتين"، وذكر أبو العلاء المعرّي، واستشهد بقوله:  
فيا برق ليس الكرخ داري، وإنما/ رماني إليها الدهر منذ ليال
فهل فيك من ماء المعرّة قطرة/ تغيث بها ظمآن ليس بسال

في القرن الخامس عشر، نهل الحميري من كتب الجغرافيين العرب الذين سبقوه، وذكر معرّة النعمان في "الروض المعطار في خبر الأقطار"، وقال في وصف المعرّة: "بالشام مدينة قديمة فيها خراب، بينها وبين حلب خمسة أيام، وهي مدينة كبيرة كثيرة المباني والأسواق، ولا في شيء من نواحيها ماء جار ولا عين، والغالب على أرضها الرمل وشرب أهلها من ماء السماء، وهي كثيرة الزيتون والكروم والتين والفستق والجوز وغير ذلك، وأهلها تنوخ، ولها سبعة أبواب، ومنها أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري اللغوي الشاعر البليغ الفصيح، كانت تُشد إليه الرحال وتُضرب إليه أكباد الإبل من الآفاق، وزعموا أنه ينتحل مذهب البراهمة، والله أعلم". وأضاف الكاتب في الختام: "وبلاد المعرة سواد كلها بشجر الزيتون والتين والفستق وأنواع الفواكه، ويتصل التفاف بساتينها وانتظام قراها مسيرة يومين، وهي أخصب بلاد الله وأكثرها أرزاقاً، ووراءها جبل لبنان".

في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، مرّ أبو البركات السويدي بالمعرّة، وكتب في "النفحة المسكية في الرحلة المكية": "هي بلدة غير مسوّرة، فيها أسواق، وحمّام، وجامع كبير في أحسن ما يكون من العمارة، وله منارة رفيعة عجيبة حسنة البناء مربعة". وأشار الرحالة في الختام إلى نزوله "عند قبر أبي العلاء المعرّي الشاعر المشهور". في مطلع القرن العشرين، نشرت مجلة المقتبس مقالة من توقيع عيسى اسكندر معلوف عنوانها " أبو العلاء المعري"، وفيها تحدّث الكاتب عن موطن الشاعر العظيم، وقال: "إلى جنوبي حلب على بعد ثماني عشرة ساعة عنها بلدة معتدلة الهواء قديمة عرفها الرومانيون باسم خالس، ثم لُقّبت بعدهم بذات القصور، وهي اليوم قضاء من أعمال حلب يُعرف بقضاء معرة النعمان، نسبة إلى المعرة قصبة، ولفظة المعرة سريانية بمعنى المغارة، وليست في شيء من التفاسير التي عددها ياقوت الحموي في معجم البلدان".

استعاد عيسى إسكندر معلوف شهادة ياقوت الحموي، ونسب البلدة إلى "النعمان الملقب بالساطع"، من قبيلة تنوخ التي تفرّق أبناؤها "في نواحي العراق والشام، ونزل منهم النعمان زعيم قبيلته بالمعرة، فنُسبت إليه". وأضاف: "فمعرة النعمان كانت حصينة منيعة، فتحها المسلمون في صدر الإسلام، ثم استولى عليها الإفرنج الصليبيون سنة 492هـ (1098م) وأعادها المسلمون إلى أيديهم سنة 529هـ (1134م)، وزارها ابن بطوطة وابن جبير وغيرهما من السياح، وقالا إنها كانت من أخصب بلاد الله وأكثرها أرزاقاً". كذلك، أشار الكاتب إلى الأسر المشهورة التي خرجت من المعرة، ومنها "الأمراء الأرسلانيين التنوخيين في لبنان، وآل الجندي في حمص".

في ثلاثينات القرن العشرين، ألّف الغزّي " نهر الذهب في تاريخ حلب"، وفيه سار على نهج الجغرافيين العرب، وقال في مطلع حديثه عن معرّة النعمان ان لفظة المعرة هي على الأرجح "سريانية، معناها المغارة"، وان المدينة سُميت بذلك لأنها "مشتملة على كثير من المغاير، وأن أصلها في السريانية معرتا، فتصرّف بها العرب وقالوا معرة". كذلك، نسب الغزّي المعرة إلى النعمان الملقب بالساطع، "لأن التنوخيين كانوا يقطنون هذه النواحي". وذكر قبر ابي العلاء، وقال ان "للناس فيه اعتقاد عظيم، يبيتون على قبره شربة ماء، ويستعملونها للبرء من الحمى".
بحسب شهادة الغزّي، وكان قضاء المعرة قديما من أعمال حماة، ثم ألحق بلواء حلب. وشملت قصبة المعرة "على دار حكومة، ومستودع رديف، وقلعة متهدمة، وستة عشر جامعا، وخمسة عشر مسجدا، ومدرستين، وأربع حمامات". تطرّقت هذه الشهادة إلى الآثار القديمة التي يذخر بها هذا القضاء، وهي تعود إلى العصور "الحثية والكلدانية والرومانية، مما يدل على أن تلك الجهات كانت من أجلّ البلدان عمرانا وأكثرها سكانا". مثل إسكندر عيسى، أشار الغزّي في الختام إلى أشهر أسر معرّة النعمان، وأقدمها أسرة آل الحراكي التي يتصل نسبها بالحسين، وأسرة آل الجندي المنسوبين إلى الأسرة العباسية، وأسرة آل يوسف التي لها كذلك نسب يتّصل بالعباسسين.

في مطلع 1940، جاء مستشار المعارف في المفوضية الفرنسية العليا في بيروت إلى معرة النعمان "للإشراف على إنشاء قبر للشاعر العربي الفيلسوف أبي العلاء المعري"، كما نقلت مجلة "الرسالة"، وشرع المستشار مع السلطات المحلية في إقامة "مكتبة عربية وأجنبية إلى جانب القبر، تجمع فيها مؤلفات الشاعر والكتب التي تحدثت عنه وعن أدبه وشعره في جميع اللغات والأمصار، على أن يجري الاحتفال بافتتاح هذه المكتبة بعد تشييد الضريح والبناء المجاور الذي سيضم مدرسة للذكور والإناث، بحضور مندوبي جميع الممالك الشرقية والأقطار العربية، وممثلي جامعاتها، وكبار أدبائها وشعرائها".

في خريف 1944، عادت "الرسالة" ونشرت بيانا باسم قائمقام معرة النعمان صبحي الياسيني يقول: "إن بلدة معرة النعمان اعترافاً منها بفضل أبي العلاء المعري عليها تدعو جميع الأدباء والفضلاء لزيارة قبره في المعرة يوم 27 أيلول/سبتمبر، احتفاء منها بمرور ألف عام انقضت على مولده". 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024