"كنت شاباً في الثمانينيات"... وجبة ذكريات دسمة أيها الأربعينيون

وجدي الكومي

الثلاثاء 2020/03/17
سيرة ذاتية للحنين، هو ما يمكننا أن نصف به نوعية الكتب الصادرة حديثاً في مصر، وباتت تؤرخ لأحداث اجتماعية عاشها أصحاب هذه الكتب، وتمس كثيرين. ورغم أن مصطلح "سيرة ذاتية للحنين" قد نبت تواً بينما أكتب هذه السطور، إلا أنه ينطبق إلى حد كبير على هذا الكتاب الحميمي الممتع، الصادر حديثاً في القاهرة للكاتب والناقد السينمائي محمود عبد الشكور، تحت عنوان "كنت شاباً في الثمانينيات"، كجزء ثان لكتابه "كنت صبياً في السبعينيات".

شاع مؤخراً في مصر، اهتمام بين أبناء جيل الثمانينيات بذكريات هذا العقد، فالجيل المولود معظمه مطلع عصر مبارك، الذين شبوا فوجدوه يحكم البلاد، وارتبطت طفولتهم ببرامج تلفزيونية معينة، وترسبت في أعماقهم وقائع وذكريات، باتت غالبيتهم الآن تقترب من سن الأربعين بعد مرور ثلاثة عقود على انتهاء الثمانينيات، فصار هذا العقد الذي كان مرتع طفولتهم مبعث "النوستالجيا" الدائمة التي لا تفارقهم.

يأتي هذا الكتاب لمحمود عبد الشكور المولود العام 1965، ليقدم لأبناء جيل الثمانينيات وجبة دسمة من ذكرياتهم، ومروراً متأنياً على محطات بالغة الحساسية في تاريخ هذه الحقبة.
دخل محمود عبد الشكور كلية الإعلام في جامعة القاهرة مطلع الثمانينيات. لم يختر الطالب الشاب الذي كانه آنذاك، الكلية، بل اختار القاهرة، رغبة منه في الخروج من الشرنقة، مغادرة الصعيد، مقتدياً بأبيه الذي ترك مثله محافظته "قنا" العام 1952، ليذهب إلى القاهرة. وهكذا يكرر محمود عبد الشكور التغريبة نفسها، حباً في القاهرة التي كانت آنذاك مدينة مثيرة، تشهد اغتيال رئيس جمهورية وسط جنوده يوم الاحتفال بالنصر، وقاتلوه اعترفوا وافتخروا بالجريمة، ثم صدرت أحكام بإعدام القتلة، يقول عبد الشكور: "وقتها كتب أنيس منصور إن الرصاصة التي أطلقت على عبد الناصر في المنشية العام 1954، أصابت أنور السادات في العرض العسكري 1980، لم يقل أنيس منصور إن هزيمة 67 صنعت فراغاً وإن ظهور دولة دينية منح التيارات المسلحة حلماً مماثلاً، وإن السادات الذي سلح الجهاديين في أفغانستان لمقاومة الشيوعيين الروس، دفع هذا الثمن غالياً.. من دمه".

يأتي عبد الشكور إلى القاهرة طالباً غضاً نحيف العود، يرتدي نظارة نظر تمنحه سناً أكبر من عمره الحقيقي، بينما مبارك يتولى منصبه، والناس تتحدث عن بساطة الرئيس وتلقائية الرئيس وسماحة الرئيس وكفر المصيلحة بلد الرئيس. يتذكر عبد الشكور كيف ترك القاهرة بداية السبعينيات وعفاف راضي تغني "ردوا السلام". يعود إلى القاهرة، فيسمع مطرباً جديداً هو حفيد جده، سيد درويش، الموسيقار العظيم، يغني على إيقاعات راقصة متقمصاً شخصية غارسون يوناني متمصّر "أصابه الفقر والإفلاس بسبب سوء الأحوال الاقتصادية: "مخسوبكو انداس صبخ محتاس مسختو بابوتس ياناس".


يأتي محمود عبد الشكور إلى القاهرة فيجرب لأول مرة ركوب أتوبيساتها المزدحمة، يحكي عن أتوبيسات (جيمي) كارتر التي كانت تطلق عوادم بشعة، والتي أهداها إلى مصر من موديلات قديمة معدومة الآدمية، فتهكم عليها المصريون لأنها كانت تهتز بركابيها كأنها جِمال، وتطلق أصواتاً بشعة مزمجرة، فأسموها: أتوبيسات كركر، إمعاناً في السخرية والاستهزاء من الهدية وصاحبها. ويحوي هذا الجزء الذي يعتبر مستهل الكتاب، روحاً رشيقة في الكتابة، تدفع بالقارئ في معمعة موضوعه مباشرة، خاصة حينما يحكي عن التحرش في الأتوبيسات، وتحذير صديق له: "خد بالك الأتوبيس دا ركابه نُصين: نص بيدقر ونص بيفكر".

يلتحق عبد الشكور في كلية الإعلام في العام الجامعي 83-84، ويتخرج فيها العام 1987، إلا أن الكتاب لا يلتزم فقط بتغطية هذه الفترة، بل يبدأ قبل ذلك، منذ تولي مبارك السلطة، عقب اغتيال السادات العام 1981، ويستمر في تغطيته لفترة العقد، من دون تقسيم الفصول إلى أعوام. وهكذا يُدون محمود عبد الشكور مثلاً أحوال مصر طيلة فترة الثمانينيات، ويبدأها منذ العام 1982.. فيه تعود سيناء في 25 أبريل/ نيسان. يتأخر إسكان محمود عبد الشكور في الجامعة، يكتشف للمرة الأولى جهاز التسجيل، المدهش للغاية، هو ليس قدرة ذاكرة مؤلف الكتاب على التقاط التفاصيل السياسية للعقد، وهي تواريخ لا تنسى بالطبع، لكن قدرته على استعادة تفاصيل حياتية شديدة الدقة، منها مثلاً مكونات حجرته في المدينة الجامعية "بطانيتان رقيقتان، وملاءة، ووسادة، ودولاب ومائدة صغيرة، وكرسي"، وقدرته كذلك على استعادة مناقشات دارت بينه وبين زميله آنذاك في المدينة إبراهيم عيسى، الذي صار في ما بعد صحافياً معروفاً أسس عدداً من التجارب الصحافية منها "الدستور" و"التحرير" وأخيراً "المقال". كما يستعيد عبد الشكور برنامج إذاعة أم كلثوم، التي لم تكن تصل إلى الصعيد، وظلّت واحدة من مباهج العاصمة، يقول: "كل المدينة الجامعية تقريباً كانت تضبط مؤشر الراديو من الخامسة مساء إلى الحادية عشرة لكي تسمع محطة أم كلثوم التي تذيع الأغاني فقط، تبدأ بأغنية طويلة للست، ثم أغنية لعبد الوهاب، ثم أغنية لعبد الحليم وأغنية لفريد".

كانت مصر السادات لم تتعاف مطلقاً من حالة الإسلامية السياسية التي، نشطت في الجامعة على الرغم من حصار الأمن للطلبة الإسلاميين في الجامعة عقب حادث المنصة، واقتحام الإرهابيين لمديرية الأمن في أسيوط، يحكي عبد الشكور عن تخوفه من رؤية الجنازير في أيدي الإسلاميين في الجامعة. لكنه لم ير أياً من هذه الجنازير، فقط زميل سلفي طالبه ذات مرة بخفض صوت أغنية أم كلثوم في حجرته في المدينة الجامعية. هو نفسه – السلفي- يقاطع أستاذاً جامعياً، ليطالبه بألا يتحدث عن معاوية خلال محاضرة عن التاريخ الإسلامي عدد فيها الأستاذ خلفيات الصراع السياسي وما فعله معاوية من صراع مع علي بن أبي طالب. زميل محمود عبد الشكور يدعو الأستاذ ألا يتحدث عن معاوية بهذه الطريقة لأنه كان من كُتاب الوحي، بينما يرد الأستاذ بأنه يتحدث في النهاية عن بشر غير معصوم، وأن خلط الدين بالسياسة كان سبباً في الإضرار بكليهما.

تندلع معركة العام 1983 حينما يصدر محمد حسنين هيكل كتابه "خريف الغضب" في بيروت، تشن صحيفة "أخبار اليوم" المصرية حملة عليه، بزعم أنه قدم تفسيراً عنصرياً لشخصية السادات لأنه صاحب بشرة سوداء، ويقول محمود عبد الشكور في تحليله للموقف: هيكل بالتأكيد كان يشعر بالمرارة بسبب ما لاقاه من تعسف أثناء حكم السادات، سواء بالتحقيق معه، أو بالقبض عليه في أحداث سبتمبر 1981، هي المرة الوحيدة التي دخل فيها هيكل السجن.

ينقد عبد الشكور فترة مبارك الأولى، كان التخبط سمة واضحة لعصره منذ بداياته، يُذكر القراء بما كان يُروى عن مبارك تلك في تلك الفترة.. عبارات "الكفن الذي لا جيوب له" و"نظافة اليد" وخطبه المملة التي كانت تصيب أي شخص بعدم التركيز، وعلى الصعيد العربي كانت مصر منبوذة من دول الصمود والتصدي التي أطاحت مصر من الجامعة العربية في مؤتمر القمة العربي ببغداد العام 1979، لكنها لا صمدت ولا تصدت. تقع مذبحة صبرا وشاتيلا في لبنان العام 1982، وبعدها بسنوات ستندلع الحرب العراقية الإيرانية، إسرائيل ستغزو لبنان، بعد محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، سيتم إجبار الفلسطينيين على مغادرة لبنان.

يكتشف عبد الشكور شغفه بالغناء وبالسينما، يقع في غرام "سواق الأتوبيس" ويحلله تحليلاً عميقاً في الكتاب، ويتابع بفضول وحزن كبيرين مأساة ملحنه المفضل بليغ حمدي الذي تسقط امرأة مغربية من بلكونة شقته فيتورط في جريمة قتلها، ويتهم بتسهيل الدعارة لأن السهرة مشبوهة. يُصاب عبد الشكور بصدمة لكنه يسرد وقائع ردود الأفعال على الفضيحة في صفحات ممتعة يحلل خلالها صعود بليغ وقوة ألحانه وردود الأفعال المطاردة له والتي تمعن في تشويه سمعته.

يتوقف مؤلف "كنت شاباً في الثمانينيات" كثيراً أمام مبارك وعصره، اختلال ميزان سياسته الخارجية، واقعة اختطاف المقاومة الفلسطينية لسفينة إيطالية "أكيلي لاورو" في أكتوبر/ تشرين العام 1985 وهي سفينة سياحية اختطفها فلسطينيون قرب بورسعيد، وكان الحل هو تحرير الركاب مقابل نقل المختطفين عبر طائرة مصرية لتسليمهم لمنظمة التحرير الفلسطينية، رفضت تونس استقبال الطائرة، وفي طريق العودة كانت الطائرات الأميركية في انتظارها. أجبرت الطائرة المصرية على الهبوط في مطار صقلية، واقتحم الأميركيون الطائرة، وقبضوا على الفلسطينيين. فضيحة كاملة يرويها محمود عبد الشكور لم يكن أبناء جيلي يتذكرها جيداً لوقوعها في فترة مبارك الأولى، لكن هذه الفضيحة تركت إحساساً بالإهانة لم يفارق مؤلف الكتاب.

بعد هذه الحادثة بشهر، اختطف فلسطينيون طائرة من طائرات مصر الطيران، تحمل اثنين وتسعين راكباً، بينهم أميركيون ويونانيون. حاول الخاطفون إجبار سلطان مالطة على تزويدها بالوقود، لكنها رفضت، هذه المرة عمدت إدارة مبارك إلى التدخل بإرسال رجال القوات الخاصة المصريين، لكن نتيجة هذا التدخل كانت وبالاً، إذ سارع الخاطفون إلى تفجير قنابلهم، فقتلوا ستة وخمسين راكباً، وقُتل واحدُ منهم.

كوارث عصر مبارك جعلت الفنان سعيد صالح، يخرج عن النص ذات مرة، قائلا في أحد العروض المسرحية: أنا أمي اتجوزت 3 مرات، واحد أكلنا المش، وواحد علمنا الغش، وواحد لا بيهش ولا بينش.

ألقى مبارك بسعيد صالح في السجن بعد هذا الخروج عن النص، كان واضحا أنه يقصد عهده مع عهدي سلفيه، عبد الناصر والسادات، يشير عبد الشكور إلى أن سجن سعيد صالح قد تعامل معه الناس فقط بسبب الخروج عن النص، ولكن الصحف لم تذكر تحديداً ما قاله، فاعتُمِد هذه الحكاية كسبب قاطع لأن "الإيفيه ممتاز من الناحية الفنية".

داخلياً لم يصف عهد مبارك من الكوارث، ولم ينج من الأزمات، إذ تمرد الأمن المركزي العام 1986، بعد شائعة عن تمديد الخدمة للجنود الذين كانت حالتهم المعيشية والوظيفية سيئة، تسبب تمردهم في إطاحة وزير الداخلية المحبوب الوحيد من الناس اللواء أحمد رشدي، وجاء زكي بدر محافظ أسيوط القوي. يورد محمود عبد الشكور في كتابه، واقعة سب زكي بدر لنواب مجلس الشعب خلال الجلسة الشهيرة، التي احتفظ بها "يوتيوب"، لحسن الحظ، للأجيال الجديدة، الواقعة التي قال فيها زكي بدر تحت قبة المجلس لأحد النواب: "أقعد يا خول.. أقعد يا شرموط يا ابن الكلب".


لا يحوي الكتاب ذلك فقط، بل إن الوقائع السياسية المخجلة لعصر مبارك في فترة رئاسته الأولى والثانية، تختلط بالكثير من الوقائع الاجتماعية الأخرى، يوردها عبد الشكور في قالب ممتع وجميل وساحر يأسر القارئ من ضمنها مقالاته الممتعة عن تاريخ السينما، المرات الأولى التي دخل فيها محمود عبد الشكور دور العرض في القاهرة، الأفلام التي شاهدها أكثر من مرة ليوسف شاهين، تحليل فني وسينمائي لفيلم "سواق الأتوبيس"، ومخرجي الواقعية المصرية الجديدة في فترة الثمانينيات، عاطف الطيب وأفلامه المهمة، ومحمد خان، وداود عبد السيد. الثمانينيات هي أيضاً الحقبة التي نال فيها نجيب محفوظ جائزة نوبل، 13 أكتوبر1988. يحكي عبد الشكور لحظة إعلان التلفزيون عن فوز محفوظ بنوبل قائلاً: "صفقنا أنا وأبي حينما استمعنا النشرة التي لم تتصدرها استقبالات الرئيس وأنشطته، بل تصدرها خبر يقول الأكاديمية السويدية تعلن فوز الأديب نجيب محفوظ بجائزة نوبل في الأدب".. يصفق عبد الشكور، ويصفق أبوه، ويهتف: "يا واد يا خايل" التي يرجعها عبد الشكور لاشتقاقها من كلمة "هايل" أو "الخيلاء" أي السير متعاجباً.

ربما كانت لحظة فوز محفوظ بنوبل، هي لحظة الصدق والانتصار الحقيقية والوحيدة في حقبة الثمانينيات كلها، التي وطد فيها مبارك سلطانه بإقالة وزير دفاعه القوي محمد عبد الحليم أبو غزالة، لتبدأ مصر رحلتها إلى التردي مع مبارك حتى نهاية عصره في 2011، سيرة اجتماعية وثقافية ممتعة، وتوثيق ساحر ورشيق ولافت للحنين.

(*) صدر "كنت شاباً في الثمانينيات" عن دار الكرمة المصرية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024