ألف قصيدة من باتريز فاريز

روجيه عوطة

الثلاثاء 2020/12/29
يشبه باتريك فاريز المتنسّكين، الذين يمضون أيامهم في دور العبادة الجبلية، يصلون، ويتأملون، ويترفعون عن الدنيا لكي يرتفعوا الى العُليا. الا أن فاريز، وإن كان يشبههم من ناحية طلته الأخيرة، فهو يفترق عنهم: بدلاً من الصلاة، هناك الشعر، بدلاً من التأمل، هناك الكتابة، بدلاً من الترفع والارتفاع، هناك الانغماس في لغته. أما ربه، فغير محدد، رَبّ نكرة، إذا صح التعبير، ومن الجميل أن يصح. لكن طريقة الاقتراب منه بمثابة طقس يومي. هذا ما تبينه قراءة "الألف الثاني"، وهو مجموعة شعرية وضعها فاريز بعد "الألف الأول"، معتمداً فيها طقسه ذاك: أن يكتب كل يوم عند الصباح، الظهر، بعده، المساء، إلى أن يغفو، وما أن يستيقظ حتى يعيد الكرة من جديد. إنه طقس كتابي. وعدا عن كون فاريز، وبواسطته، يضع قصائده، فهو يجعله يدنو من ربه ذاك قبل أن يشيح الشعر عنه، بمعنى أنه لا يناجيه، أو يتحدث معه، إنما يكتشف، وبالدنو منه، دخيلته.

في كل الأحوال، وبعيداً من هذا التشبيه ووجهه، أو ووجوهه، بين فاريز والمتنسكين، الذي قد يختزله أو يقدمه على نحو ديني، فثمة في "الألف الثاني" ما يستحق التوقف عنده في التعليق، وهو أمران.

الأول، يتعلق بشكله، بحيث أن قصائده مرقّمة، والرقم الذي تنطلق منه هو ألف، بمعنى أن القصيدة-الفاتحة هي القصيدة الألف. على هذا النحو، تستمد هذه القصيدة، ومن رقمها، معنى يفيد بأن قبلها وبعدها منها، أي قبلها ألف وبعدها ألف. كما أن اختيارها، وفي السياق عينه، يتعلق بكونها مفصلية من ناحية أنها تؤلف، وتماماً كالعام ألف في التاريخ وأساطيره، رجاءً للتبدل الذي يميل الى كونه جذريا، وأبوكاليبتياً حتى. بالتالي، القصيدة-الألف هي القصيدة التي، وعندما تحل ألف قصيدة من بعدها، لن تكون على شاكلة الألف قصيدة التي حلت قبلها. هي قصيدة تبدل ماضيها، الذي، وان بدا أنه نفسه مسقبلها، لن يكون مطابقاً له، فيجعله صورة عنه.

الثاني، يتعلق بصيغة في القصائد الألف بعد الفاتحة، وهي استخدام ضمير المخاطب "أنتَ". إذ أن الشاعر يتوجه بقصائد الى هذا الـ"أنتَ"، أو بالأحرى يتوجه اليه بها في سياق وضعها حوله، أي كتابتها عنه. الاستناد الى هذا الضمير ينطوي على إشكالية، سأحاول إبداءها من خلال قصيدة: "أنت، وأينما كان، علبة فارغة\ تستبدل الكلمات\ وتخلق سبيلك\ تُنسى الى الخلط بينك وبين النقص\ تحفر الفراغ الذي ينتهي كل واحد منا الى الوقوع فيه\ أنت، وأينما كان، كلمة فارغة\ علامة تبدي الطريق\ لكنها لا تقول شيئاً". فعلياً، الإشكالية في هذه القصيدة أن الشاعر-وهذا مجرد تفسير بالتأكيد- يمر بالـ"أنتَ" لكي يكلم حاله، بحيث أنه، ومن دون هذا المرور، تكون حاله عاصية عليه. لكن، ما هي هذه الـ"أنتَ"؟

إنها، وبحسب القصيدة باستمرار، ضمير الفراغ، بالتالي، الشاعر يمر بهذا الضمير لكي يصل الى حاله، التي تقع في موضعه. في النتيجة، هو لا يكلم حاله كأنها غيره، مثلما يفيد شرح تبسيطي لـ"حالي هي غير"، بل إنه يكلم غيره لكي يقدر على أن يكلم حاله في موضعه، في الفراغ. وقد يصح أن أضيف في هذه الجهة أنه يكلم غيره لكي يتكلم، فأن يكلم حاله التي تقع في موضع غيره، في الفراغ، يعني، وببساطة، أن يتكلم. على هذا الأساس، الـ"أنتَ" هو فعلاً علامة تبدي الطريق، لكنها، علامة لا تقول شيئاً، اذ إنها تبدي الطريق للشاعر الى حاله في حين توجهه اليها، غير أنها لا تتحدث معه، لأنه، وفي الأساس، وبتوجهه هذا، لا يتحدث معها، لا يرمي الى ذلك، بل الى حاله إياها. في الحقيقة، هناك شيء ما مهم، نوعاً ما، في ناحية الارتكاز الى هذا التفسير لـ"أنتَ"، بحيث يصير هذا الضمير هو ضمير الفراغ، الذي نرمي إليه الكلام لكي يرتد علينا، وعندها، نقع على حالنا فيه.

على أنه، وفي حال ربط الأمرين أعلاه ببعضهما البعض، أي القصيدة-ألف بما هي الفاتحة، بالـ"أنت"، يمكن فعل ذلك على أساس أن الأولى هي فاتحة مجيء الثاني من بعدها، وهي، بذلك، تشبه بدء الذهاب الى موضعه، الى الفراغ، بالشعر. مثلما يمكن فعل ذلك أيضاً على أساس أن الأولى، برقمها، تشبه الرقم الذي كان مكتوباً على الكرتونة التي وُجد فيها فاريز ذات يوم، حين كان لا يزال رضيعاً، قبل أن يترعرع حول الفراغ من الأهل، فيربي الـ"أنتَ" بالتوازي مع تربية حاله.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024