كتابة ما بعد الورق.. العالم الافتراضي يتوحّش

شريف الشافعي

الخميس 2020/09/17
ليست وحدها الرواية التي تغيّرت، وتتغيّر يومًا بعد يوم، جرّاء التحوّل المذهل إلى عوالم المعلوماتية والرقمية والثورة التقنية والاتصالاتية والانسلاخ من الحقيقي ببراثن الوَحْش الافتراضي؛ خصوصًا في خضمّ الإنترنت والسوشيال ميديا، وأخيرًا بسبب تداعيات كورونا الصحية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفلسفية، وكونيّات ما بعد كورونا، حيث المزيد من الانفصال الجسداني والنفسي والعُزلة والاغتراب والاضطرار إلى "التثقف عن بُعد"؛ لمن لا تزال الكلمة هي زادهم الضروري.

لقد حدثت تحوّلات ملموسة في سائر الآداب والفنون بطبيعة الحال إثر هذه الانقلابات التي عصفت بالحياة وتخللت سائر أنسجتها العضوية، وتمثلها المبدعون الجدد داخل الوطن العربي وخارجه خلال الآونة الأخيرة في أعمالهم المبتكرة، التي تباينت قيمتها بين طليعية مُنبئة، وتحليلية كاشفة، وتسجيلية راصدة.

بدورها، على مستوى الثيمات الإبداعية والمضامين والأفكار والتخييلات وآليات الكتابة وأساليبها ومقوّماتها وعناصرها الفنية، فإن لفظة "التجريب" قد تحرّكتْ بسرعة فائقة إلى دائرة الاعتيادي والمجّاني، بعدما غدت مئات بل آلاف "التجارب" قفزات "تجريبية"، وتضاءلت قراءات مُعَامِلات الدهشة والإبهار المتعلقة بما هو معروف عن التجاوز والانفلات والانزياح في حقول التأليف الديناميتية الجديدة تمامًا، تلك الحقول المجنونة التي برزت فيها مؤشرات أخرى مختلفة ذات أرقام فائقة، وهي متعلقة هذه المرة بقراءة مُعَامِلات النسف والتفجير والإتيان بخرائط مستحدثة، وليس مجرد خلخلة المعطيات السائدة وزلزلتها.

مفهوم آخر اقترن بهذه التحركات الإبداعية من الحيّز الورقي إلى الحيّز الرقمي، هو أن ذلك التجريب غير المحدود على سائر الأصعدة (النسف بتعبير أدق) في بعض أحواله هو غاية بحد ذاته، بعيدًا عن المبررات والتوظيف والإضافات المرجوّة منه في ميزان التحليل الفني المجرّد، وهذا له ما يبرره، من حيث الحماس الزائد من جانب المؤلفين والتنافس المشروع في اعتماد أسبقية أو حصد أولوية أو نيل ريادية من جانب النقاد والمؤرخين (أول عمل ينتهج كذا، أول مؤلف يفعل كذا وكذا)، وبديهي أن مصفاة الزمن لها الكلمة العليا في الفرز النهائي، والتفرقة بين الأصيل والزائف، والجوهري والشكلاني في هذه الإرهاصات والمحاولات التي تستحق التحية على جرأتها، وتُحتسب لها الشجاعة بصفة عامة في خوض أعشاش دبابير المتهكمين والساخرين من كل صاحب فردانية ومبادرة وطموح.

من شواهد هذه التحولات الكبيرة في العالم الإبداعي: الكتابي/القرائي خلال الفترة الوجيزة الماضية، تلك النقلة العملاقة التي اتخذتها دور النشر العربية والمؤسسات الصحافية كذلك في سبيل بث إصداراتها وتداولها وبيعها في صيغة ملفات إلكترونية، وقد تزايدت هذه المساعي بشكل واضح في المرحلة الكورونية الراهنة، وبطبيعة الحال فقد تأثرت مضامين المنشورات الإلكترونية بهذا التحوّل، فليس كل ما يصلح للورق يصلح للبث الرقمي، بل إن مضامين بعينها قد صارت تُؤلف خصيصًا للفضاء الإلكتروني، وهي لم تكن تُنتج من قبل للنشر الورقي.

شهد العالم العربي أيضًا تناميًا استثنائيًّا، وصل إلى الذروة القصوى "الأكثر مبيعًا"، في ميدان تسويق عدد كبير من المؤلفات والعناوين إلكترونيًّا عبر تطبيقات عالمية شهيرة معتمدة، أبرزها تطبيقات أمازون على أجهزة كيندل (Kindle) المعروفة، التي باتت تدعم اللغة العربية وتغازل ملايين المستخدمين العرب من خلال منصتي أندرويد و"iOS"، وقد احتضنت هذه الوثبة جهود مبدعين كثيرين أغرتهم فرصة كسر حصار القراءة التقليدية ومعوّقاتها، خصوصًا مع إتاحة إمكانية ذكية، هي النشر الذاتي للمؤلف الذي يجد نفسه مؤهلًا لعرض منتجه الإبداعي والفكري دون تدخل من أي وسيط. ولقيت هذه التجربة استجابة واسعة النطاق، وتفاعل معها مستهلكون كثيرون من فئات عمرية مختلفة وشرائح ثقافية وتعليمية متباينة، وبالطبع فإن المحتوى الإلكتروني جاء في معظم الأحوال ملائمًا لوعائه التقني المغاير تمامًا، والمتحلل من قيود النشر الورقي النمطي وشروطه ومعاييره ومحدداته.

في اتجاه موازٍ، وفي هذا السياق من التغيّرات في المنظومة الإبداعية والقرائية للنصوص الروائية والمكتوبة، تبارى مبدعون عرب في طرح مؤلفات عبر نوعية، تمتزج فيها سمات الورقي والسمعي والبصري والحقيقي والتخييلي والافتراضي، إلى جانب التشكيلي والتجسيمي، وغير ذلك من التقنيات، التي تتيح المشاركة والتفاعليّة للقارئ/المتلقي؛ غير التقليدي بدوره في هذه العملية المتشابكة.

ولعل رواية "شات" للأردني محمد سناجلة كانت من بواكير هذه الأطروحات بشكلها الأوّلي، وأعقبتها سلسلة رواياته، ومنها "صقيع"، و"ظلال الواحد"، وأخيرًا "ظلال العاشق - التاريخ السري لكموش"، المصممة ببرنامج فلاش ماكروميديا، بلغة رقمية تستفيد من فنيات الغرافيك والأنيميشن والصوت والصورة والإخراج السينمائي، وهي تقع في ثلاثمئة ميغابايت، ويمكن تحميلها بالمجان مع سائر روايات المؤلف عبر موقعه الشخصي.

أما أحدث المبتكرات العربية في الإبداع الروائي الرقمي غير التقليدي، فهو المشروع الذي أعلنت عنه الكاتبة والباحثة المصرية ريهام حسني، المستشارة الدولية لمنظمة الأدب الإلكتروني العالمية، منذ أسابيع قليلة، في جامعة ليدز ببريطانيا، وهو عمل تفاعلي مركّب بعنوان "البـرَّاح"، بالتعاون بينها وبين مطوّر البرمجيات محمد ناصف، وهو لا يزال قيد التجريب والتمحيص من الوجهة التطبيقية كتكنولوجيا بالغة التعقيد لاعتماده بصفة نهائية قريبًا، وإن كان قد جرى عرضه مؤخرًا بالفعل أكثر من مرة في إطار جامعي وعلى مجموعات ثقافية نخبوية في داخل العالم العربي وخارجه، كما تم بث البرومو الدعائي له على موقع يوتيوب.


تمضي رواية "البرّاح" في مسارات تكنيكية جديدة تجعلها من الناحية الإجرائية، مبدئيًّا، مغامرة مكتملة الأركان، فللمرة الأولى يتم توظيف "الهولوغرام" و"الواقع المعزز" مع أبجديات دمج الورقي والرقمي، والواقعي والافتراضي، والحقيقي والأسطوري، في فضاء النص متعدد الأجناس. وتعني تقنية "الهولوغرام" تجسيم الأشخاص والصور في المشهد بالأبعاد الثلاثية عبر الموجات الضوئية، فيما تعني تقنية "الواقع المعزز" الدفع بالكتل والأجسام والهياكل التخيلية إلى البيئة الحقيقية للقارئ/ المتلقي، ليعلن "الوَحْش الافتراضي" تسيّده للعالم، وإزاحته النسبية للواقعي الذي صار مضمحلًا في كوننا الراهن.

وسط هذه التراكيب والمتاهات الكثيرة، تحتفي رواية "البرّاح" بالتفاعلية بشكل أكبر من التجارب العربية الرقمية السابقة، فالقارئ/المتلقي لا يكتفي بمتابعة الحركة والأصوات والصور الحية الخ، وإنما هو إيجابي مشارك على طول الخط، بل إنه يلعب أكبر الأدوار في النص، ومن حقه كذلك اقتراح خيط سردي لذاته في العمل. أما طبيعة السرد فمختلفة هي الأخرى في تلك الأرجوحة أو اللعبة الروائية "البرّاح" المتنقلة عبر الأزمنة القديمة والحديثة، إذ يأتي السرد في مواقف تجسيدية تشخيصية، بما يلغي الحاجز الوهمي تمامًا بين القارئ/المتلقي وحبكة العمل، فكأنما المتلقي ينتمي إلى الأحداث الروائية المصنوعة، أو أن تلك الأحداث الوهمية هي التي تنتمي إلى حياة المتلقي الفعلية.

هكذا، فإن "ما بعد الورق" ليس مجرد عنوان لتلك الكتابات المستحدثة، روائية أو غير روائية، التي فرضت حضورها رقميًّا في الأفق، وإنما يتوسع هذا العنوان ليصف مرحلة بأكملها من عمر البشرية، لها خصائصها وتفاصيلها على مستوى المباشر المعيش، والتأطيري العقلي والفلسفي، والعلمي التقني والتطبيقي، وهذا ما يمنح الأدب الرقمي جدية ومصداقية كمرآة من مرايا الحياة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024