حياة افتراضية تحت الجسور

عادل نصّار

الخميس 2021/11/25
لطالما كانت الجسور في مخيلتي عنواناً للتشرّد، إذ إنه ولسنوات طويلة، وكلما ضاق ذرعي من محاولات تأمين إيجار الغرفة التي تأويني، أفكر في مكان إقامة موائم لي بين أعمدة أحد الجسور. لذلك كان يعنيني دوماً تفقدها في روحاتي وجيئاتي، دارساً صلاحها من عدمه وإذا ما زالت خالية الأمكنة التي افترضت انها تصلح لسكناي مع أمتعتي القليلة، ولم يحتلها أي من المتشرّدين الكثر الذين تعج بهم المدينة ويزدادون عدداً سنة تلو أخرى.

كنت على استعداد لتقبّل ما قد تفرضه علي الظروف، محاولاً تدبّر أمر تفاصيل عديدة كانت تشغل بالي. هل أحمل امتعتي معي؟ إذا ما قررت قضاء حاجة ما، وأتساءل هل سيحتل مكان اقامتي أحد ما؟ اثناء غيابي، وهل يتوجب علي التحلي بالقوة والعنف لاستعادة مكان تشرّدي. وفرض هيبتي والتحلي بصفات ليست من طباعي لتتلاءم مع صفات عالم التشرّد والشوارع. كل ذلك كان يجول في خاطري، إضافة لقضايا أخرى مثل الاغتسال والتبرز. هل أشارك الاخرين، كالمارة والمتبطلين والعمال المياومين وسائقي سيارات الإجرة وأوتوبيسات النقل الى مناطق متعددة الذين يداومون في المكوث هنا طيلة هذا النهار، الامر تحت الجسور وبين أعمدتها. هل إذا ما حللت أمر كل هذه التفاصيل أقيم في المكان ليل نهار، من دون محاولة القيام بجولة في الشوارع. والطعام كيف أؤمنه؟ هل سيرأف بحالي أحد ما؟ او جمعية او أفراد، فيداومون على تأمين ما يلزمني؟ أم سأصبح مهملاً منسياً كحال الجسور وعالمها الذي يسوده البؤس والاوساخ والروائح الكريهة، وأصبح جزءاً من هذا العالم الذي يتم استعماله كمكان لصور الشهداء أحياناً، وأحياناً أخرى للقديسين وللافتات السياسية أو الإعلانات التجارية على أنواعها؟

بقي هذا الهاجس يؤرقني لسنوات الى ان شاءت الظروف أن أقيم في كوخ من خشب في مرآب سيارات بالقرب من جسر الكولا، لا تهدأ الحركة فيه ليلاً نهاراً. فلم يدخل النوم الى جفني طيلة سنين اقامتي هناك، حيث صادقت في هذه السنوات بائع الصحف الذي كنت ابتاع من عنده الصحف والمجلات على أنواعها، الصادرة يومياً واسبوعياً وشهرياً. وكنت أسدد له حسابه عند كل آخر شهر، وعندما تركت العمل هناك سألته أن أؤجل تسديد حسابي بعد فترة لأني لا أملك المال حالياً، فأجابني: لا عليك، إعتبر الحساب مسدداً. ودّعته، وكنت كلما مررت من امام المكان حيث كان كشكه، تحسّرت على تلك اللحظات، إذ انه غادر المكان لأنه لم يعد يشتري الصحف والمجلات أحد. ولاحقاً انتشرت قوى أمنية وعسكرية مكان كشكه الحديدي.


اليوم وبعدما انجلت الأمور، وأصبح التشرّد بعيداً من تفكيري، وما عاد يأخذ أدنى حيّز منه، بتّ أمر قرب هذه الجسور وأنظر لها نظرة أخرى. أنظر لها كيف انها تهدد سكينة الذين يعيشون بقربها، هذه الجسور المعلقة في الهواء، والتي تحاذي الشقق السكنية وغرف نومها او صالوناتها، وتعكر صفو القاطنين ولا حيلة أمامهم سوى الصبر. 

أنظر لهذه الجسور كيف أنها مانعة لضوء الشمس على أحياء بأكملها، وكأنه لا تكفي ناطحات السحاب حديثة البناء. نعيش في العتمة جراءها رغم ان الوقت يكون نهاراً. أضيفت لجسور السيارات، جسور المارة، وكيف انها باتت مداخلها مكاناً لمستوعبات النفايات وكيف يمسي الامر عصياً على التحمل عند تكدسها أو عندما تفيض هذه المستوعبات عن طاقتها. أفكر كيف ان هذه الجسور وجدت لتحل ازمة سير خانقة، تعيشها العاصمة، فكانت النتيجة مزيداً من أزمات السير. خصوصاً أن هذه الجسور ركبت فوق طرق، هي في الأصل ضيقة ولا تتسع لسيارتين تسيران معاً، بالإضافة للناس السائرين على الاقدام أو الدراجات النارية. 


أفكر في الجسور وأفكر في مقاهيها التي أقيمت على عجل تحتها لتلبي حاجات المارة وحاجات سائقي السيارات والباصات العمومية. الجسور، هذه الشبكة المعقدة، هذا الاختراع المشوه لوجه المدينة بروائحه ومناظره الذي يدل على عدم رعاية وعناية به منذ زمن.

كل شيء يتلاشى ينهار وبيروت تنكمش على ذاتها بالارتفاع صعوداً، بدلاً من تمددها في الاتجاهات كافة. بيروت محاصرة روحها. تحاصرها الجسور وناطحات السحاب.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024