جمال الراعي الأسدي ورعيته الجميلة

أدهم حنا

الخميس 2021/09/02
في أقسى أيام الحرب والبؤس، والخروج من حكم الكنيسة وصراعاتها إبان القرون الوسطى، ظهر الخلاف الأشد تجذراً بين الكنيسة والدولة -على ما يُمكن فعله للبائس والمجنون وشديد العوز والفاقة- من كون أن الحكومات في أوروبا منذ القرن السادس عشر بدأت بفصل المرضى وخلفهم الشحاذون والفقراء من الأماكن العمومية، مخصصة لهم أماكن ومناطق خاصة، ليتشكل الخلاف على الدعم المقدم لهم. فالكنيسة ترى مسيحاً في كل فقير طلب مساعدة أو طعاماً، واحتكار الدولة للمساعدة والعناية، أفقد المسيحي الفرد ومن خلفه الكنيسة حسنة الاتصال بالفقير والبائس والمريض تقرباً من الله. هنا نشأ مذهب علماني شديد الترفع والمصداقية بالمعنى الحديث للأنوار (الفيلونتروبيا) النزعة التي تميل إلى تمجيد الإنسان وتكريمه. أي أن البؤس نزع من الاستقرار الاجتماعي اتزانه، وصولاً لجعل الاتساع الدولتي في التأثير والمجتمع أساساً في بنية المجتمع الحديث، لنزع الفقر ومآلاته.

في سوريا توقع الكثيرون نزعة مشابهة، نزعة جماعية تدرجها فظاعات الحرب ومآلاتها على السكان. لكن اشتداداً معاكساً قد درج في الأوساط الاجتماعية، وحتى في أوساط النخب الاقتصادية والثقافية. بعد السنين الأولى للثورة، طُلب اشتداد العنف أكثر نحو الفئات المستضعفة التي افتقدت درعاً حامياً لها، وحينما بدا العنف هائلاً، تحورت الشخصية السورية نحو أن تحصل على التوسط الطبيعي للعيش عبر المنظمات والجمعيات الخيرية، والتي تميل غالبيتها لدعم عالمي أممي. إذ بات عماء الطبقات الاقتصادية مُعمماً، لا إنتاجية معقولة لتشكل طبقة، ولا ميل ثقافياً أخلاقياً برجوازياً أو ذا خلفية سياسية لدعم الطبقات الأكثر فقراً أو تأثراً بالحرب أو التي فقدت حتى رشدها النفسي والعقلي.

في كل هذا، ينمو مذهب منحط المجتمع، يتعايش على انحطاط هائل في رموزه العائمة على السطح، في شكل تعاطفه الذي يتضاءل؛ فتظهر مناحٍ للسلوك الفردي أكثر فأكثر. تنخرط الجماعة في آلية مفزعة. إن شاءت، ارتادت عملاً جماعياً تحت طائلة عقاب مرعب وشديد، والعمل الجماعي ذو المنشأ الديني، كالزكاة والتبرعات الأهلية، يُحدد ويُراقب ولا يتجاوز إطعام الناس وجعلهم يعيشون أو بالكاد. هنا يظهر ميل آخر ليبدو مذهبياً، لدى فئات أكثر انتشاراً ومائعة طبقياً. بالطبع انتشارها يزداد لدى الطبقة الغنية في محاولة لملء الوقت ورحلة لإصلاح الشكل أو جعله على هيئة الفاشينستا. الشكل بالمعنى الكُلي للكلمة. هتك الإنسان في السوري، أو حتى في وعيه أو حتى في صلاح صلاته. فظهر المذهب الفردي ليس كتنوع في الذائقة، بل بهوس تقني لصنع الجمال بوصفه دائرة وحيدة للوجود. رغم الفقر الشديد والعوز الهائل تمتلئ المدن السورية يوماً بعد يوم بمراكز التجميل.

بعض خريجي الصيدلة، يتدربون في دورات سريعة تؤهلهم للعمل في سوق لا متناهٍ من اللاهثين لعمليات تجميل والتي باتت جزءاً من استقرار الفرد. لا ينسحب هذا على النساء فقط، فقد دخل الذكور المعترك ذاته وبشكل هائل أيضاً.

يقترب بشار الأسد ذاته، أي راعي البلاد، من هذا، وكان مفتاحاً هائلاً لهوس السوريين في التجميل، ليس من كونه صاحب شعبية، بل كون الطبقة والفئة التي تؤيده من الأغنياء باتت توزع القيم وتعممها على المجتمع.

لقد فتح بشار الأسد خدّيه لتأملات مشهدية، ليس بوصفها تأملات زعيم تعب، أو متهالك القوى جراء حرائق بلده. عبد الناصر امتلك كثيراً من هذا، فكان رئيساً تعباً منهكاً، في السرد عنه، أو في تصويره، فتظهر تأملاته ومعاناته المتعبة والمرهقة. أما بشار الأسد فلا يفضل هذا الدور. الرئيس الذي يعتني كثيراً بالفوتوغراف، يعنيه أن يكون بطلاً من أبطالها أيضاً. فعدّل تقاسيم وجهه بحقنها بـ"الفيلر". بشار الأسد، يحتاج مادة ما يحقنها في جسده البريء، تماماً من الحرب، يحتاج كيمياء ما تسير في جسده كدلالة على إنتاج قدر حياتي أطول، وأكثر ثباتاً وإشراقاً من عضلات وجه تتسم بالتعب والخوف، أو دعمها لترتسم في ملامح نصر وهمي، نصر على أنقاض بلاد دُمّرت. حاجة الأسد للحياة في تسامي وجهه عن البلاد، جعلت الراعي والرعية في المستوى الفردي ذاته. هذا راع لا يملك أي ابتعادٍ عن حلمه الفردي، ولا يسمح لوجهه حتى بحمل أتعاب بلادٍ انهارت كلها.

مقاومة الحرب أو تحملها، أو معالم الانحطاط والانتهاك لا يُريدها أن تظهر على وجهه أبداً، في أي صورة. بل يعتني حتى بغباء، بأن تبدو صوره دوماً بألوان زاهية، هو لا يملك ذوقاً كئيباً أو كتوماً. هذا ما نعرفه عن الراعي.

"إن شكل هذه المرأة التي تفكر في أن تكون جميلة، ألطف من شكل تلك المرأة الجميلة التي لا تفكر في ذلك". هذا مقولة من القرن الثامن عشر، لكنها أكثر شيوعاً في سوريا. صنع الجمال بات هوساً فردياً، لكن مضمونه الجمعي يجيء من الاتباعية الخفية، للسوشال ميديا، والانتهاك الحقيقي للروح السورية الذي نقل السوريين لأوهام فردية مادية تذوي وتُنتهك في داخلها لكنها تلون وجوهها، وتعدل سماتها من أجل الالتفاتاتٍ والتأملات المُريبة. في اتصال لنا مع أكثر من خمس أطباء تجميل قالوا لنا: "الناس لا تُطعم أطفالها، من أجل عملية تجميل، ولو كانت غير لائقة." وطبيب أكد لنا أن نسب المشاركين في عمليات التجميل في سوريا قد تزيد عن أي دولة في العالم. هنا تبدو القيم داخل سوريا في حالة تحول. أكثر الفئات إيديولوجية، بمعنى التي تتاح قيمها وأفكارها وسلوكها الفطري بين السوريين، هم الفنانون، الممثلون والممثلات، فتحولت أشكالهم المُجمّلة إلى هوس سوري عام.

في أبحاث ليست قديمة، ارتبط التجميل باقتصاد الإباحية، خاصة في أوطان فقيرة كسوريا والأردن ولبنان ومصر وتونس. في القيم العامة للمجتمع كان المُجمّلون نُدرة يُشار لها بالأصبع، وترتبط بتسويق الجسد والجمال برَداءة. الأمر ذاته في أوروبا في بداية القرن الثامن عشر، فاعترض روسو على غِش الله بالمكياج. عدّه كذباً صريحاً على الرب. لكننا لسنا في حالة أوروبية. يقود السوريين، في ثقافة تجميلهم، راعٍ يظن أنه أبدي، والشعوب تحاول حقن وجهها مثله وهي تلهث من أجل معنى للحياة، فيما الفنانون عديمو الاستقرار النفسي، وليسوا راغبسن في أي اعتزال عن ظهورهم الشاب والمتجرد عن الحياة. وليس آخرهم قصي خولي الذي حطم فكّه ليوسعه. في هذه الحمى السورية لا نزعة إنسانية عامة أو قيمية، ولا نزعة فردية متوازنة نحو ميل ديني أو أخلاقي. الكل يخرج من عباءة داخله بوأد وجهه وعلامات الأسى والتماهي مع الموت. السوريون الذين بالكاد يملكون وقتاً للنظر لأنفسهم في الشارع، يهربون من مخاوفهم نحو هوس الصنع. أما الراعي وطبقته الفنية، فيلاحقون ما تركته الحداثة منذ قرون في أن يبدو الجميع متشابهين إلى حد ساذج.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024