كيف تطور السجن السياسي في العالم العربي؟

حسن الساحلي

الأحد 2019/06/09
 انضم مؤخراً "منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية" إلى عائلة جمعية "أمم للبحث والتوثيق" التي انشغلت لأكثر من 10 سنوات في قضايا متعلقة بالسجون، التعذيب، والاختفاء القسري بين لبنان وسوريا. من أهداف المنتدى توثيق "الثقافة السجنية" والممارسات المتعلقة بالسجن (السياسي بشكل خاص) في العالم العربي، بالإضافة إلى إنتاج مواد متعلقة بالسجن متعددة الوسائط (أدب، سينما، موسيقى...)، وخلق شبكة تسهل التبادل بين الأكاديميين، المساجين السابقين، الناشطين الحقوقيين، الفنانين، والمؤسسات المحلية والعالمية ذات الاهتمامات المشتركة.



يتبوأ السجن موقعاً مركزياً في الفضاء السياسي لأكثرية بلدان العالم العربي أقله منذ صعود الأنظمة العسكرية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. يثبت ذلك كم الإنتاج الأدبي والفني الذي ولد على أيدي أجيال متعاقبة من الناشطين السياسيين، ولا يزال حاضراً خاصة بعد الربيع العربي. كما يعتبر السجن بمثابة "مدرسة"، تخرج جماعات من الجهاديين بعد أحداث 11 أيلول، من "القاعدة" وأخواتها وصولا إلى "داعش" التي ولدت من رحم السجون العراقية والسورية، من دون أن ننسى أن السجن كان حاضراً عند الأجيال الأقدم في الثمانينات والتسعينات، كما لعب دوراً في حقبة سابقة، عندما ساهم في صقل الأفكار الراديكالية لسيد قطب وآخرين.

في لبنان، يتعزز حضور السجن عاماً بعد آخر، وقد لعبت مؤسسات مثل المحكمة العسكرية دوراً أساسياً في ذلك، حيث استعملت كأداة بيد الطبقة السياسية لكم الأفواه وتردد اسمها بشكل خاص خلال حراك 2015 ولا يزال (أتى تشكيلها في العام 1968 من "الحاجة إلى تجديد منظومة الضبط او السياسي والامني في مواجهة تصاعد المد اليساري وتوزع النفوذ الفلسطيني المسلح" وفق رشا الأمير).

من جهة أخرى، لعب صعود العونية السياسية التي تتقاسم مع التيارات الفاشية الكثير من المشتركات، دوراً مهماً أيضاً في عودة السجن إلى الأضواء من خلال استسهال توجيه التهم للناشطين السياسيين والصحافيين والمثقفين أو حتى تسهيل تبرئة ملفقي تهم العمالة كما حصل مع زياد عيتاني مؤخراً. أما بما يخص الإسلام السياسي، لا يختلف هنا الحال كثيراً في لبنان عن البلدان العربية، فمع كل حدث أمني يظهر دور السجن في تخريج من ضلَع في التخطيط والتنفيذ (آخرهم عبد الرحمن المبسوط)، بخاصة في المرحلة التي كان فيها أحد مباني سجن رومية إمارة إسلامية مستقلة. كما أن السجن يحضر بشكل مركزي ضمن الحياة الاجتماعية للبقاعيين الشماليين والعشائر بشكل خاص، ومع أننا نتحدث هنا عن جرائم مخدرات إلا أن السياسة غير بعيدة كثيراً، بما أن جهات سياسية تستفيد من استمرار خروج جرود بعلبك الهرمل عن القانون وإبقاء زراعة الحشيش على حالها.

يعرّج "منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية" في النص التعريفي به على مجموعة من العناوين التي تعطينا فكرة عن تطور السجن خلال القرنين الماضيين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (مع العلم أن حضور السجن كأداة رئيسية للعقاب في أوروبا، يعود لأواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر). البداية من قضية أسعد الشدياق أوائل سجناء الرأي في لبنان والعالم العربي، الذي سجنته حتى الموت الكنيسة المارونية في العام 1829 داخل "صومعة صغيرة لزمها ولم يكن يخرج منها إلى موضع يبصر فيه النور أو يستنشق الهواء" وفق أخيه الكاتب أحمد فارس الشدياق الذي يعيد السبب إلى المجادلة في الدين و"القول أن الكنيسة على ضلال" (الفضل لبطرس البستاني في تحويل قضية الشدياق في العام 1860 إلى قضية رأي عام). أهمية هذه الحادثة هو حصولها بعد تطور "الأنظمة العقابية" في مصر وتزامنها مع تغيرات كثيرة شهدتها المنطقة، منها احتلال فرنسا للجزائر وحملة ابراهيم باشا على بلاد الشام التي أدخلت المنطقة "طوراً جديداً من أطوار سيرتها، ووضعت ناسها وجماعاتها ومجتمعاتها، وجهاً لوجه مع "الحداثة" وقيمها ومفرداتها".

من ولادة سجين الرأي في عصر النهضة العربي، ينتقل المنتدى في تأريخه المقتضب هذا، إلى سجين سياسي هو نجيب الريس، الصحافي السوري الذي سجن في جزيرة أرواد بسبب آرائه المعارضة للانتداب الفرنسي، وقد عرف الريس بسبب قصيدته المتفائلة "ظلام السجن"، التي اصبحت من أشهر صفحات الأدب السجني، لكن اختياره كنموذج تاريخي يعود بسبب تزامن سجنه (1922) مع إنشاء "دول وطنية" في المنطقة و"دخول جملة من المفردات الجديدة على ثقافتها السياسية هي من الأسباب الموجبة لأن تسير بالواحد من الناس (المواطن أو المواطنة)، مواقفه من الشأن العام، وخياراته، إلى السجن!.

لكن تأثير فرنسا الأساسي على "التقاليد السجنية" في العالم العربي وفق السيرة السجنية التي يكتبها المنتدى، يظهر مع سجين غير عربي هذه المرة هو هنري آلليغ المؤيد للثورة الجزائرية الذي وضع في العام 1958 كتاباً تحت عنوان "الاستجواب"، يروي ما حصل معه في معتقل الأبيار (الجزائر العاصمة) من تعذيب على يد جنود الجيش الفرنسي، وقد عرف الكتاب بشكل خاص في فرنسا وأثار ضجة كبيرة. لكن أهمية هذا الكتاب لا تقف عند حدود انتصاره المعنوي للشعب الجزائري، فـ"من يطالعه على هدى مما أصبحت سجون الجزائر مسرحاً له بعد نيلها الإستقلال، لا يسعه سوى أن ينزله منزلة الشاهد على الإخفاق العظيم لـ"الإستعمار" في أن يقترح أنموذجاً يحتذى به...".

أما "الحقبة السجنية" التي نعيشها اليوم فليست بعيدة كثيراً عن ما حصل في العام 1958، رغم المحاولات الشكلية لبعض القادة العرب لمسايرة شعارات الغرب التي ارتفعت بعد انتصاره في الحرب البادرة، دفاعاً عن "حقوق الإنسان" وعن "الحريات العامة"، وفي هذا السياق يمكن وضع خطوة الملك المغربي حسن الثاني بداية التسعينات، إغلاق سجن تازمامرت بعد سنوات طويلة من إنكار وجوده، ثم ما قام به خلفه من "إحداث هيئة تحكيم مستقلة بهدف تحديد تعويض ضحايا وأصحاب الحقوق ممن تعرضوا للاختفاء والإعتقال التعسفي"، كما أن خطوة بشار الأسد بعد أشهر قليلة من خلفه أبيه ليست بعيدة كثيراً، حيث يطلق سراح مئات السجناء السياسيين قبل أن يسرب خبراً مفاده تحويل سجن المزة الشهير إلى "معهد للعلوم التاريخية والآثار"! لم يتغير شيء في الحالة السورية خلال العقد الماضي والأوضاع أصبحت أسوأ بعد الربيع العربي بما يخص السجناء السياسيين ليس فقط في سوريا والبدان التي تشهد حروباً أهلية (التي تناسلت فيها سجون غير حكومية) بل أيضاً في مصر التي أصبحت نسبة السجناء السياسيين فيها أكثر من 60 بالمئة، والحال يبدو أنه يتوجه لأن يصبح شبيهاً في السودان وبلدان أخرى تشهد حراكاً شعبياً.  

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024