بطولة ديما عبدالله

روجيه عوطة

الثلاثاء 2021/02/02
أول ما تنقله قراءة رواية "أعشاب ضارة"(*)، التي حصلت منذ أيام على جائزة فرنسا-لبنان (جمعية كتاب اللغة الفرنسية-Adelf)، هو الشعور بأن كاتبتها ديما عبدالله ليست على صفة "فرانكفونية لبنانية" بالمعنى الذائع. إذ أنها تكتب من مطرح مختلف عن ذاك الذي تصدر عنه الرواية التي تتحدد بتلك الصفة، والتي تحددها. مطرح العبدالله هو مطرح حميمي، منفرد، ولا مبالغة في الحديث عن أسلوب سردي خاص به. إذ إن عبدالله، وحين تكتب منه، تبين هذا الأسلوب، وهو، وفي حال تعيينه قليلاً، يمكن الإشارة إلى كونه، ومع تقدم حكايته، لا يقع في إطناب، فهو مقتضب بمعنى لا يروي أكثر من اللازم. أما، وحين يدور على وصف، فيبدو بمثابة انتباه إلى تفاصيل بسيطة، وهي، في الغالب، تبدل مجرى الحكاية، أو بالأحرى تأخذها إلى مقصدها الذي لا يُعد مساوياً للمتوقع.

فعلياً، كان من الممكن لرواية عبدالله أن تكون كليشيه طويلاً في حال كتابتها من باب "مهنوي"، أي تطبيقاً لبعض المعايير الأدبية التي غالباً ما تطرح كأنها السبل إلى الحديث مع قراء الفرنسية: تعريف بمدينة خلال الحرب مع التأكيد على التمسك بالحياة مثلاً. لكن رواية عبدالله، ومن مطلعها بجملة من قبيل "لا أعتقد أن حكايات الحرب جسيمة الأثر، ولا أحبذ الكلام عن هذه الأشياء"، لا تقع في الفخ. انما تبدو، في ناحية ما، قابلة للقراءة كسخرية منه. وعند النظر في مرده، قد يصح الاعتقاد لأنها على تماسك يحيل الى إخلاص للمسرود، بما هو وقائع، بالإضافة الى ضرب من الصدق في التعبير عنه. والرواية لم تقع في الفخ إياه لأنها على قرب من موضوعها، معجونة به، إذا صح التعبير، أي الصلات بين ابنة وأبيها، والتي ترسو على حب بينهما. فرواية عبدالله ليست عن هذا الحب فحسب، بل منه، يعني، وبعبارة واحدة، هو مطرحها.

على هذا المنوال، وحين تذهب عبدالله إلى سرد هذا الحب على لسان بطلتها، ومنها في اتجاه أبيها، فهذا ليس على طريقة مباشرة ومونوتونية. على العكس، فلأن الحب هنا طفولي، فهو يتسم بظرافة، تجعل سرده مُشاكلاً له لكي لا يكون على جو بائس في عمومه. فالابنة، وفي حين ترى العالم من حولها، تبدو انها، وفي الوقت نفسه، تكتشفه، وهذا، بالانطلاق من ملاحقتها لـ"عملاقها"، أي أبيها، من دون أن تكون متكئة عليه، أو ممحية به. إنما تستطيع الحضور إلى جانبه، وفي الغالب من الأوقات، كما لو أنها على نضج يزيد من عمرها. من هنا، تتنقل وإياه من المدرسة إلى البيت، على طريق هو طريق الحرب، محاولةً أن ترسم ملامح ذاك العملاق بدقة.

في أثناء رسمها هذا-وفي هذه الجهة متانة شخصية الابنة- تحافظ على موضعها منه، كإبنة بالطبع. لكن كإبنة تدرك أن أباها يريد حمايتها من الظروف، ولا حيلة له. فحين يخبرها أمراً ما للتخفيف من قلقها، لا تأخذه على محمل الجد، لكنها تتظاهر بذلك حباً فيه. كما لو أنها هي تحافظ عليه، أو على دوره حيالها، في حين أن الحوادث لا تتيح أن يوفر لابنته عيشاً من دون قصف ورصاص.

هكذا، يمكن القول إن حب الابنة لأبيها يشبه فِعلاً بطولياً لأنها، ومن محلها كطفلة، تواصل الإيمان بأبيها، بحضوره إلى جوارها، رغم إدراكها، في قرارة نفسها، بأن حضوره ليس مضمون الأثر. أما الأب، فهو أيضاً على بطولة خاصة به، تتعلق بشِعره، بمواظبته عليه كطريق لحضوره إياه، لا سيما إلى جانب ابنته.

فعلياً، تتمكن رواية عبدالله من الإشارة إلى صلات الحب بين الإبنة وأبيها، من دون أي تنميط أو مغالاة، بل بدقة، تجعلها، وبشكل من الأشكال، بمثابة سردية عن تغير الأدوار العائلية في إثر الحرب. بالتأكيد، جو هذه الحرب حاضر في الرواية، لكنه لا يثقلها، بل يبدو بعيداً للغاية من مطرح الشخصيتين، من حديقتهما الممتلئة بالحب، ببروده ونبضاته وأعشابه المفيدة.

(*) Mauvaises Herbes, éd. Sabine Wespieser.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024