رغم كل شيء..

روجيه عوطة

الجمعة 2019/10/11
ثمة حديث يدور بعد بروز كل أزمة من الأزمات في لبنان، وهو غالباً ما تفتحه عبارة "رغم كل شيء". فالإقتصاد، ومعه الليرة، ينهار، والاجتماع لا يتوقف عن التفتت، والثقافة صارت في خبر كان، والسياسة أياً كانت محاولات تدويرها، لا تؤدي سوى إلى انعدامها، لكن "رغم كل شيء"، لا تزال البلاد، مركزة في بيروت، تنبض. وهذا النبض، وإن لم يُشَر اليه بإنجاز من هنا أو هناك، وهذا إن وجد أصلاً، ولم يُفتعل، يُشار اليه بفعل معين، وهو السهر، والاحتفال.

هذا الحديث، حديث "رغم كل شيء"، وحين لا ينطلق كدعاية من المصرف، ينطلق من مؤسسة أخرى، كالرواية، وإن لم ينطلق منهما، فيصدر عن مُكرِّسه، وهو الإعلام، المكتوب أكثر من المرئي، الذي أخذ يوماً على عاتقه إعادة إنتاج السردية الوطنية عبر مدّها بأخبار حصولها، تماماً كأخبار المعجزات. وطبعاً هذه السردية، وإن كان ربطها  بـ"اليمين" سهلاً، فكذا ربطها بـ"اليسار"، الذي، ومع تحوله إلى الإعلام بعد الحرب، رد عليها بما يشبه النواح، قبل أن يتركه جانباً، ويعود ويتبناها لاحقاً. إذ أن "رغم كل شيء" هي علامة على أن تلك السردية تعمل، وأنها ما زالت فعالة، وأن الذين ترويهم، تشبعهم إصراراً، وتجعلهم منبعثين على الدوام من الرماد. فحتى لو صار عيشهم كارثة، فهم، وبالتوازي معها، وليس بعدها، يتمسكون بالحياة، ويواصلونها كسهرات واحتفالات.

تلك السردية، ومثلما هو معلوم، انصرمت. وحين تنصرم سردية ما، لا تعود تمثِل في العموم، بل ان تمثيلها يتقهقهر، ولا يرجع سوى الى من يريدها على قيد الإشتغال، كأصحاب المشاريع، أو طبقتهم المستثمرة، التي لا تحتاج فقط للاستقرار الذي لا تتوانى الطبقة الوسطى عن محاولة تحقيقه من أجلها، بل، وأيضاً، إلى ما يفوقه، وهو تزيينه، والابتهاج به. على أن تقهقر السردية ذلك انصرم بدوره أيضاً، إذ انها لم يبق منها، وفي لحظة انحطاط شاملة، سوى "رغم كل شيء"، التي لم تعد لازمتها، ضامنة استمرارها، بل طيفها، الذي لا يزال يظهر، في حين أن "صيادي الأشباح" أقل من قلة. بهذا، صارت تلك الطبقة، صاحبة الإرادة السردية، تقص بـ"رغم كل شيء"، فلا توجهها إلى طبقات تحتها، بل الى ذاتها أولاً، وثانياً إلى مشابهتها في العالم، لا سيما الاغترابي: فـ"رغم كل شيء، أنا طبقة ميسورة، لا أزال، وكما أفعل في صوري المنشورة في صحافتي، أسهر وأحتفل، لأني استثمرت، ولأني سأستثمر، لذا، لا بد أن يقاسمني فرعي الدياسبوري ذلك".

في هذه الجهة، لا يمكن سوى التنبه إلى أن هذه الطبقة صارت تتسند إلى تعريفها الأوّلي، كطبقة، وتلازمه لكي تستمد رسوخها منه، كأنها تستنزف آخر مصدر لـ" ثروة التمثيلية" لها، ولا تريد" المخاطرة" في أن تكون أكثر، في أن تطورها. ربما، لهذا السبب، وفي وقت انحطاطها، ما عادت تحتمل أي فعل يذكرها بأن البلاد، و"رغم كل شيئها"، تتكشف عن انهيارها، وربما، لهذا السبب أيضاً، صار مثقفها هو بيروقراطي المعرفة، الأكاديمي، أو "الأكاميدي" بالأحرى، الذي يخبرها عن الاستقرار، الذي يحققه لها كخبر، وإن دحضه، وبخفوت، قليلا، فمن باب إعادة تأليفه، قبل الاعتذار عن "فظاظة" الدحض. وبين "بارتي" وأخرى، يبشر لها بالفن كحل لامتصاص اي اضطراب قد يصيب هذا الاستقرار، بحيث أنه طريق لتوسيع طبقته، يعني توسيع طبقة الخضوع  لها.

لكن، أن تصير تلك الطبقة، طبقة، "رغم كل شيء"، وأن تستدعي عبر بيروقراطييها الاستقرار كخبر، لكي تبقى طبقة "رغم كل شيء"، فهذا، في حد ذاته، يشير إلى أن ثروتها التمثيلية، التي توزعها على هؤلاء لكي تجعلهم ينتمون إلى طبقة تحتها، إلى طبقة وسطى، شرعت في الاستنزاف، أو  في النضوب. إذ أنها، بعبارة أخرى، تتحول إلى بروليتاريا، تنضمّ إلى البروليتاريا المشتركة. وبالتالي، تعريفها الطبقي، وتعريف غيرها، كطبقة ميسورة، وكطبقة وسطى، ما عاد دقيقاً ولا في مكانه، بل أنه، وكتلك السردية أيضاً، انصرم. وأي إطلالة من هذا التعريف على خارجه، شبيهة بالإطلالة من منزل على خراب، قد يصدم فاعله، أو ربما لا يصدمه نتيجة نكرانه. لكننا، كمتفرجين عليه، سنجده كاريكاتورياً.

فـ"رغم كل شيء" هي أنشودة تشييد منزل فوق خراب، وهي أنشودة تشييد بيت على متن انهيار، وهي أنشودة تؤخر الكشف عن الخراب كخراب، وعن الانهيار كانهيار. وهذا "رغم فلترتهما" بفلاتر الأخبار والصور والقصص، أياً كانت. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024