محمد صلاح.. وصورة البطل الشعبي

شريف الشافعي

الأحد 2018/06/10
في السير والملاحم الشعبية التي يعج بها الموروث الثقافي العربي، الشفاهي والكتابي، يقترن البطل دائمًا بالميدان، فالبطولة الاستثنائية هي فروسية وفتوحات، وقدرة خارقة على تحدي المصاعب والتحديات ومحو سنوات التهميش والاغتراب، ليجيء النصر الذي من ورائه نصر.
هذا البطل، ذو الميلاد الغرائبي أو الإعجازي أحيانًا، له من صفات البشر في بيئته ما يجعله اختزالًا واقعيًّا صافيًا لمجموعهم، فهو يمشي بأقدام شعبه كلها، ويضرب بأيديهم، وينظر بعيونهم، ويفكر بعقولهم، وهذا هو الذي يمنح الأسطورة قدرًا من مقبوليتها ومصداقيتها، فالبطل الشعبي إنسان في المحصّلة، يأتي بما لم يستطعه العاديون، لكنهم يشعرون في قرارة أنفسهم بأنه منهم.

الأحلام الجمعية أيضًا، بإمكان البطل الشعبي العربي أن يترجمها من شيفرة الخيال إلى لغة الحقيقة، ما دام يتحدث بألسنة الجميع، مثلما يفعل كل شيء وهو محمّل بملامح الذوات العربية المشتركة، التي لم ينفصل عن أرضيتها العقائدية وجذورها التكوينية من عادات وتقاليد وصفات مكتسبة.

لا يمثل أبو زيد الهلالي والظاهر بيبرس وعنترة بن شداد وغيرهم أنفسهم فقط في سيرهم الشعبية ذائعة الصيت، فهم أبطال خالدون تعشقهم الجماهير لأنهم مفوّضون من جماعاتهم وشعوبهم لينوبوا عنها في حصد البطولات، وتحقيق الإنجازات بالوكالة، وهم مدعومون بالتشجيع والعصبية من جانب المفتونين بهم لأنهم يرتدون دائمًا خرائط أوطانهم التي ينتصرون لها في مواجهة منافسين وأعداء شرسين.

هكذا خاض أبو زيد الهلالي مغامراته بقلب أمة بأكملها، فصار البشري والملحمي والأسطوري والسحري في القرن الثاني عشر الميلادي كيانًا واحدًا ورمزًا مجتمعيًّا يروّض المستحيل عبر مليون بيت شعري يتغنى بفتوحاته وأعاجيبه في سيرته الشعبية، ويشيد بدفاعه عن المظلومين المنكسرين المقهورين المحرومين، العاجزين عن الفعل.

بالهمة ذاتها، صيغت سيرة السلطان المملوكي الظاهر بيبرس البندقداري (1223-1277م)، التي تروي معجزاته ومعجزات السلاطين التالين في منازلة الأعداء، خصوصًا الصليبيين والمغول. وإلى جانب شجاعة بيبرس، فإن سيرته الشعبية المرويّة تثمّن إصلاحاته الاجتماعية والإدارية، ودفعه المظالم عن الناس، فهو "أبو الفقراء والمساكين" مثلما أنه "أسد مصر".
ولأن كرة القدم هي الساحرة المستديرة في عصرنا الحديث، فإن ميدانها الأخضر الذي تمرح فيه شياطين الإنس قد تمكن من سحب البساط من ميادين الفروسية، لتصاغ السير والملاحم الشعبية الجديدة تحت أقدام اللاعبين، البشريين الأسطوريين، القادرين على تحقيق أهداف كثيرة، داخل وخارج الملعب، بهزهم شباك الخصوم.

أسهمت اللعبة الأكثر انتشارًا بوضوح في إعادة رسم شكل ومفهوم البطل الشعبي المنقذ ذي الطاقات الهائلة والقدرات الخارقة والسلطات الأبوية كما في سير الفاتحين الأوائل، ليصير البطل العصري في المشهد الكروي "ابنًا" وليس أبًا (يطلق المصريون على محمد صلاح نجم ليفربول: ابننا)، لكن صفات البطولة الشعبية ذاتها لم تتغير، وإن تغيرت الآليات والأبجديات.

لا يزال البطل الشعبي الاستثنائي في عالم كرة القدم هو ذلك الفرد النابه، البشري القادم من قرية أو مدينة عادية بسيطة (كما في نموذج محمد صلاح ابن قرية نجريج في محافظة الغربية)، الذي يشترك مع رفقائه في المعتقدات والعادات والتقاليد (العربي المسلم المحافظ المنضبط عائليًّا)، والذي تعرض للتهميش والاغتراب سنوات، وهو في الوقت ذاته ذلك القائد الذي يختزل طموحات المجموع من الجماهير العربية الباحثة عن رمز ومخلّص من كوابيسها وإحباطاتها وهزائمها اليومية.

ومثلما أن رواد مجالس السهر واحتساء "البوظة" في القديم، كانوا يشعرون بالفخر ويتعاطون نشوة التحقق ولذة الانتصار وهم يتوحدون مع عنترة والهلالي وبيبرس في ملاحمهم التي يستمعون لها باستغراق كامل كأنهم أبطال فاعلون أو مشاركون في الحدث، فإن مشجعي محمد صلاح مثلًا في الوقت الحالي يكادون يحمّلونه مسؤولية تحقيق آمالهم وتطلعاتهم في الحياة، مستعيضين بأهدافه الأسطورية الرشيقة عن صناعتهم إنجازات ملموسة بأيديهم على الأرض.

التفاف الجماهير العربية حول معشوقها الكروي على هذا النحو، أمر تعدى في كثير من الأحوال دعم وتشجيع ومحبة نجم يستحق كل تقدير واحتفاء بالتأكيد، إلى هوس يعكس تعطشًا مستقرًّا في الضمير الجمعي إلى صورة البطل الشعبي الراسخة في السير الشعبية، فمحمد صلاح وفق هذا المنطق ليس لاعبًا في فريق أو منتخب، بقدر ما أنه محارب بالنيابة عن ملايين الجنود غير المستعدين لمعاركهم الصغيرة حتى، بأسلحة تخصهم.

هكذا، يتحول توقف صلاح عن إحراز الأهداف بعض الوقت من أمر رياضي طبيعي إلى معنى آخر لدى دراويش السير الشعبية الجدد، فالأهداف التي يحرزها هي فتوحات مباركة تخص جميع موكليه بالمبارزة نيابة عنهم، والذي يسهم في تعطيل الفارس هو متآمر أو متحالف مع العدو الصهيوني الذي لا يرضى الخير للعرب.

في واقعة إصابة اللاعب المهاري الفذ محمد صلاح في كرة مشتركة مع المدافع الإسباني العنيف سيرخيو راموس في نهائي كأس أبطال أوروبا في مايو الماضي بين ليفربول وريال مدريد، وهي لعبة متكررة عندما يتغلب الذكاء على القوة في الملعب، تجلت ملامح هذا الوله الهستيري بـ"ابننا"، الذي يبدو أنه أصابه قدر من عدوى السير الشعبية، فتحدث عن إصابته قائلًا: "أنا مقاتل، على الرغم من الصعاب، أنا واثق بأني سأكون في روسيا، لأجعلكم فخورين".

في حدود منافسات كرة القدم، فإن مقولة صلاح مقبولة بكل تأكيد، وهي رسالة طمأنة لمنتظري حضوره المبهج في مونديال روسيا، لكن النموذج الصارخ للهوس فهو ذلك الذي صدّره بعض المختصين والكتّاب والمحللين، من منتجي الثقافة والفكر وراسمي صورة البطل الشعبي الجديد للجماهير العربية المتعشطة إلى الملاحم والأساطير والمعجزات التي تشبع خواءها.

من بين ما كتبه هؤلاء أن المدافع الإسباني راموس على صلة بالصهيونية العالمية، ولذلك تعمد إيقاف التفوق العربي الصاعد في العالم (وأضاف آخرون: المد الإسلامي)، وقارن البعض صراحة بين راموس وليبرمان وزير الدفاع الإسرائيلي، وربط آخرون إصابة صلاح بالحقد وبالقلوب السوداء وبالمؤامرة من جانب "قاتل يرتدي زي لاعب".

وبلغت الحالة مداها لدى الكاتب وائل قنديل الذي وصف في "العربي الجديد" لعبة مشتركة في كرة القدم لم تستحق مخالفة بتقدير حكم المباراة بأنها "جريمة ضد الإنسانية"، وواصل الشطط بقوله: "محاولة اغتيال على الهوية، تجمعت فيها كل نوازع الغل العنصري، بما بدا معه وكأن الفوز بكأس أوروبا عند الإسباني الأندلسي راموس يأتي أولوية تالية، لإنهاء أسطورة صعود صلاح".

مدهش، وغير مفهوم، موقف النخبة من هذا المشهد، وإن بدا مفهومًا بقدر ما أن يأتي التهويل من جانب البسطاء في شعوب فقيرة مقهورة محبطة، محكومة بالحديد والنار، مغلقة جميع الأبواب أمام تحركاتها الحرة نحو تحقيق الأهداف وإنجاز الطموحات وقنص الأحلام. وإن ذلك الاندفاع الجماهيري تغذّيه بالضرورة منابع التراث الملأى بعشرات السير والملاحم ومئات الأبطال والفاتحين.

وهكذا، في عالم الساحرة المستديرة، يبقى خلق صورة جديدة للبطل الشعبي التاريخي هو الحل الأسهل في مجتمعاتنا العربية، للخروج من النفق المظلم، والتشبث بطوق نجاة، ولو كان وهميًّا، والعبور إلى ضفاف آمال ومنجزات زائفة. 
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024