شادية دلوعة مصر.. بالسلامة

محمود الزيباوي

الإثنين 2017/11/06
نُقلت الفنانة الكبيرة شادية إلى إحدى المستشفيات الخاصة بعد تعرضها لجلطة في المخ وقصور في الكلي، وهي تخضع حاليا للعلاج في العناية المركزة. تفاعل الجمهور العريض بسرعة مع هذا الخبر الحزين، متمنيا الشفاء العاجل لـ"بنت مصر"، التي امتلكت القلوب بصوتها العذب وابتسامتها النضرة على مدار عقود من الزمن.


في مطلع شهر أيار-مايو 1947، نشرت مجلة "دنيا الفن" خبراً يقول: "علمنا ان مطربة جديدة على وشك الصعود إلى قمة المجد الفني اسمها شادية، أجمع كل من سمعها على أنها تمتاز بصوت ملائكي جميل ووجه معبر رائع، وستظهر لأول مرة على الشاشة الفضية في فيلم جمع بين الفكاهة الرفيعة والموسيقى والغناء الحديث، هو فيلم "العقل في إجازة" أمام المطرب النابغ محمد فوزي. وقد قال لنا المخرج حلمي رفلة ان محمد فوزي قد صنع خيرا يتشفّع له طول حياته باكتشاف هذا الوجه الجديد، الذي سيرتفع إلى سماء الفن".


شكل فيلم شادية الأول بداية لانطلاقها بشكل سريع في عالم السينما، وباتت في زمن قصير وجها محببا من نجوم "الصف الثاني". في حزيران-يونيو، عادت "دنيا الفن"، ونشرت بطاقة تعريف بالنجمة الصاعدة، وقالت في هذه البطاقة انها من مواليد 9 شباط-فبراير 1931، اسمها فاطمة كمال شاكر، والدها أحمد كمال الدين شاكر، وهو مهندس في مصلحة الزراعة، ووالدتها تركية. وُلدت في حي الحلمية في القاهرة، ولها خمسة اخوة، اثنان ذكور، وثلاثة إناث. حصلت على الشهادة الابتدائية، تجيد العربية والإنكليزية والتركية، أوّل أفلامها "العقل في إجازة"، وأحدثها "عدل السماء". تقطن في شارع القاضي، رقم 3، عابدين. اكتشف صوتها الموسيقار التركي المعروف منير بك نور الدين، وهو الذي لفت نظر والدها إلى معدن صوتها. واكتشفها للسينما أحمد بدرخان، ولكن أول مخرج اشتغلت معه حلمي رفلة. تتلمذت على الموسيقار فريد غصن. تقدم لها عريس ووافق والدها على خطوبتها له، ولكنها هدّدت بالانتحار إذا أُرغمت على الزواج، لأنها تحبّ الفن أكثر من أي شيء آخر. خفيفة الروح، تقرأ في ملامحها البراءة والسذاجة، وتنبّأ لها الفنيّون بمستقبل باهر".

سطع نجم شادية، واحتلّت صورتها غلاف "دنيا الفن" بعد خمسة أشهر، وذلك بمناسبة قيامها ببطولة فيلم "حمامة السلام". تحدّث منتج الفيلم أنور وجدي عن البطلة الجديدة، وقال: "وُفّق حلمي رفلة في اختيار الممثلين، وقد أجاد كعادته، وكذلك كان جميع ممثلي الفيلم، وخاصة شادية التي أعجبت بتمثيلها وغنائها في فيلم "العقل في إجازة"، فتعاقدت معها على تمثيل فيلمين، وقد ظهر لي أني كنت أكثر توفيقا عند مشاهدتها". ضمّت ليلى مراد صوتها إلى صوت زوجها المنتج، وقالت: "ممثّلو الفيلم أجادوا ادوارهم جميعا، وأعتقد أن شادية ستكون في القريب من أحسن مطرباتنا". واصلت شادية صعودها بثبات في السنوات التالية، وباتت نجمة من نجمات الصف الأول، وعُرفت بأغانيها الخفيفة، وحافظت على مكانتها عند انتقال مصر من عهد فاروق إلى عهد محمد نجيب.


شكلت شادية في بداياتها ثنائيا فنيا ناجحا مع كمال الشناوي، ثم اجتمعت بعماد حمدي على الشاشة، وتطوّرت علاقتهما بسرعة، وتكلّلت بالزواج. في نهاية تموز-يوليو 1953، تحدثت مجلة "الصياد" اللبنانية عن "قصة الحب الذي تبادله النجمان شادية وعماد حمدي وانتهى بزواجهما بنفس الطريق والأسلوب الذين يتمّ بهما زواج الممثلين والممثلات في الأفلام السينمائية"، وأضافت في تعليقها على هذا الحدث: "والجدير بالذكر ان شادية عندما أنشدت اغنيتها المشهورة "حسن يا حسن يا خولي الجنينة يا حسن"، وراحت تذرف الدمع وهي تغنيها، ظّن الكثيرون ان شادية تحب شخصا اسمه حسن، ولكن تبيّن أخيرا ان المطربة الرقيقة لا تقصد واحدا اسمه حسن، وانما تقصد الشكل الحسن الذي كانت تراه متمثّلا في عماد حمدي وحده دون غيره من عباد الله الممثلين". دام هذا الزواج بضع سنوات، وانتهى بالطلاق. بعدها، تزوجت شادية من المهندس الإذاعي عزيز فتحي عام 1958، وواجه هذا الزواج العديد من المصاعب، فطالبت بالطلاق، وأقامت دعوى قضائية استمرت بالمحاكم فترة طويلة قبل أن تحصل عليه.

تابعت شادية مسيرتها خلال هذه الحقبة بنفس الوتيرة، وتوهّجت في عالم السينما كما في عالم الغناء، وختمت مرحلة الخمسينات بفيلم "المرأة المجهولة" الذي حقق نجاحا ساحقا. بعدها، خرجت النجمة من ثوب البنت الشقية الدلوعة الخفيفة الظل، وأبدعت في سلسلة من الأفلام الكبيرة، منها أربعة روايات لنجيب محفوظ: "زقّاق المدق"، "اللص والكلاب"، "الطريق"، و"ميرامار". اقترنت بصلاح ذو الفقار، وعاشت معه حياة هانئة، غير أنها فشلت في الإنجاب، فدخلت في حالة من الإحباط، وانفصلت عن زوجها، ثم عادت إليه في مطلع السبعينات، غير أن هذه العودة لم تصمد، فتم الطلاق الثاني سنة 1972.


في هذه المرحلة الصعبة من حياتها، قدّم بليغ حمدي إلى شادية سلسلة طويلة من الألحان الرفيعة، رفعتها إلى مصاف مطربات الصف الأول، منها من شعر عبد الرحمن الأبنودي "زفة البرتقال" و"يا عنب بلدنا" و"حبيبي الأسمراني"، ومن شعر محمد حمزة "خدني معاك" و"قطر الفراق" و"يا حبيبتي يا مصر"، ومن شعر مجدي نجيب "قولو لعين الشمس". رافق الجمهور بإعجاب هذا التحوّل الكبير في مسيرة شادية الغنائية، وكتب احسان عبد القدوس في مجلة "الكواكب" في أيار-مايو 1966: "أغنية شادية الأخيرة "حبيبي الأسمراني" رائعة. اللحن رائع في بساطته، ليس فيه تعقيد، ولا تظاهر التجديد، والأداء رائع في رقّته وحلاوته. وقد ذكّرتني الأغنية بالفراغ الكبير الذي تركته شادية عندما قرّرت اعتزال الغناء في الأفلام. ان شادية ممثلة عظيمة. وهي أيضا مغنية لها شخصية قرية من القلب. فلماذا لا تعود إلى الغناء في الأفلام، ولو في بعض الأفلام؟". استجابت شادية لهذا النداء بعد سنوات، وأدّت من كلمات الأبنودي وألحان بليغ حمدي عدة أغنيات بديعة في و"شيء من الخوف"، ثم قدّمت فيلما استعراضيا ضمّ مجموعة كبيرة من الأغنيات كتب كلماتها مرسي جميل عزيز، ولحنها أيضا وأيضا بليغ حمدي، وهو فيلم "أضواء المدينة".

ظهرت شادية خلال حياتها الفنية في سلسلة طويلة من الأفلام تجاوز عددها المئة بأقلّ تقدير، والقسم الأكبر من هذه الأفلام يعود إلى الفترة الممتدة من سنة 1947 إلى 1969. في السبعينات، لعبت شادية دور البطولة في عشرة أفلام، أوّلها "نحن لا نزرع الشوك"، وآخرها "الشك يا حبيبي". في الثمانينات، غابت "معبودة الجماهير" عن الشاشة الفضية، واكتفت بفيلم وحيد لعبت فيه دور والدة يسرا، وهو فيلم "لا تسألني من أنا" الذي شكّل نهاية مسيرتها السينمائية عام 1984. قبل عرض هذا الفيلم، شاركت شادية في بطولة مسرحية "ريا وسكينة" التي حصدت نجاحا جماهيريا مدويا، ولم تتكرّر هذه التجربة. بعد هذا العطاء الغزير، اعتزلت شادية في عام 1986، واحتجبت عن الأضواء، لكنها بقيت حاضرة من خلال أفلامها وأغانيها.

في فيلم "شيء من الخوف"، جسّدت شادية باقتدار دور فلاحة من الصعيد تُدعى"فؤادة"، وتحوّلت "فؤادة" من يومها إلى رمز لمصر، وبات لقب "بنت مصر" يسبق اسم شادية أينما حلّت. وخلال انتفاضة 25 يناير، تصدّرت أغنية "يا حبيبتي يا مصر" الموقف والمشهد، فأضحت "أغنية الثورة الجديدة"، وجعلت من شادية صوت هذه الثورة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024