لؤي حمزة عباس: الياس فركوح.. إشهد علينا

المدن - ثقافة

الخميس 2020/07/16
(1)
حدثتني عن الشجرة، كان موت مؤنس الرزاز الفاجع قد أنبت شجرةَ غريبة في داخلك، الشجرة التي أخذت تكبر مع كلِّ رحيل، لكنها منذ رحل أمجد ناصر، قرينك البدوي، صارت غابةً، أسمع حفيف أوراقها في حديثك عن أمجد مثلما سمعته في حدّيثك عن مؤنس، وما يعنيه رحيل كلٌّ منهما بالنسبة إليك، أدخل عليك في (دار) "أزمنة"، أراك مفترشاً أوراقك، وبخطك المنمنم تواصل الإجابة على رسائل مؤنس القديمة، بعد عقود من رحيله.
ـ الموت لا يقطع الأحاديث، يا لؤي!
ـ إنها المشاريع التي لا تخطر في بال، يا صديقي.
بعد أقل من عام تصلني إلى البصرة نسخة من كتابك وقد سميته "رسائلنا ليست مكاتيب"، وفي إهدائها تكتب، بحرف مائل أنيق، عن الموت الذي لا يقطع الأحاديث.

(2)
في أوائل التسعينيات، في ظل الصعوبات العظيمة التي كابدها العراقيون تحت الحصار، انطلقت في بغداد دار "الأمد" لصاحبتها الأديبة الفلسطينية المقيمة في العراق، حكمية جرار، بمعية نخبة من الشباب العراقيين، كتاباً وفنانين، قدمت الدار خلال وقت قصير اصدارات لافتة تستجيب، في شكلها ومضمونها، لتصورات الشباب وتحقق بعضاً من طموحاتهم في واحد من أقسى ظروف العراق، فضمّت لائحة اصداراتها بعضاً من العناوين التي ستحافظ على مكانتها في الثقافتين العراقية والعربية، مثل كتاب محمد خضير الفريد "بصرياثا" في طبعته الأولى، وكتابي عن المشهد الإبداعي الجديد في العراق، الشعري والقصصي، والديوان الوحيد لجان دمو "أسمال"، وكتب غيرها لخزعل الماجدي وعبد الستار ناصر وحكمت الحاج وخضير ميري وعلي الشلاه وآخرين. وقد كان من المؤمل أن تنشر كتابي القصصي الأول لولا تفاقم الأزمات المالية والمشكلات الإدارية التي دفعت المشروع للتوقف، لكن الصلة الانسانية بين حكمية الجرار وكتّاب الدار لم تنقطع، فحملتْ مخطوطتي معها في إحدى سفراتها لعمّان، وكان (الراحل) الياس فركوح من بين من قرأها، وقد طلب أن يحتفظ بنسخة منها، كان وقتها يبحث عن بداية مغايرة لسلسلة "تباشير" التي يفكر في إصدارها عن "أزمنة"، متبنياً ومبشراً بكتاب يُنجزون مغامراتهم الكتابية الأولى، وترى أزمنة فيها "تباشير حقيقية نأخذ على أنفسنا مهمة تقديمها، بغير تردد، إلى القرّاء، لنفسح لها موقعاً على مساحة الابداع في الأردن.. بل في خريطة الثقافة العربية المعاصرة"، لتكون "على درّاجة في الليل"(1997) فاتحة تباشير الدار، وهي الصلة التي ستمتد وتثمر صداقة نبيلة مع الياس لحوالي ربع قرن، على الرغم من تأخر اللقاء المباشر إلى ما بعد 2004، وستكون حصيلتها ستة كتب بين العامين 1997 و2018، فقد كان باب "أزمنة" مفتوحاً أمامي وأمام أصدقائي، وصارت عمّان بالنسبة إلي هي الدار وفردوسها المطل على شارع وادي صقرة، في الطابق الرابع من عمارة الدوحة، حيث كان الياس يجلس، ويفرش أوراقه، ويتنفس.

(3)
في العام 1979 نشرت وزارة الثقافة والفنون في بغداد كتاب الياس الأول، "الصفعة"، وهي المجموعة التي تعرّف فيها العراقيون، من محبي القصة القصيرة، على صوت عربي شاب يحمل سمات أسلوبية خاصة، في السنة التي صدرت فيها أكثر من مجموعة قصصية مهمة في العراق، لذلك قُرئت مجموعته كما تُقرأ أعمال الكتاب العراقيين، الأمر الذي ترك شعوراً راسخاً في نفس الياس بالإنتماء للثقافة العراقية، وقبلها لمحبة العراق والعراقيين، وكانت التسعينيات العقد الأمثل للتعبير عن ذلك، فقد جعل من دار "أزمنة" بيتاً للعراقيين، من يعرف منهم ومن لا يعرف، فنشر لنخبة كبيرة منهم في وقت كان النشر فيه مطلباً عزيزاً داخل العراق وخارجه. نشر للطفية الدليمي، ومحمّد خضيّر، ومحمود جنداري، وأحمد خلف، وموسى كريدي، وطرّاد الكبيسي، وحاتم الصكر، محمد صابر عبيد، وجواد الحطاب، وعواد علي، ونزار عبد الستار، وفضل خلف جبر، وعلي السوداني، وعبود الجابري، وحسين عبد الزهرة مجيد، وسهيل نجم، ومحمد درويش، وفاروق يوسف، ولؤي حمزة عبّاس، وسواهم.

(4)
لم يكن الياس ناشراً عابراً، قاربت الصنعة بينه وبين الكتاب فاحترف نشره وتوزيعه، بل كان عاشقاً فريداً من عشاق الكتاب، متطلعاً للأجمل والأكثر ابداعاً في صناعته. في معرض فرانكفورت للكتاب العام 2004، المناسبة التي سعدت بصحبته فيها أول مرّة، كنا نتجول معاً بين أجنحة دور النشر العالمية، من الصين إلى أستراليا، ومن أسبانيا إلى هولندا، نتوقف أمام كلٍّ منها، يسحب كتاباً يتصفحه بصمت. بعدما أنهينا جولتنا، غادرنا الأجنحة متوجهين إلى كافتيريا المعرض، فتحول صمته إلى بوح مثقل ببعد الأمل: متى نصل بالكتاب العربي إلى هذا المستوى؟ أمل يدرك استحالته في واقعنا الذي يزداد تراجعاً ورداءة كلما تقدم الزمان، لكنه، مع ذلك، بقي مسكوناً بحلم الكتاب المستحيل.

(5)
صلة الياس النوعية بالكتابة، حققت له موقعاً متقدّماً في الكتابة العربية الحديثة، فلم تكن الحداثةُ لدية ناتجةً عن رغبة آنية أو هوى عابر، بل كانت ذهاباً نحو التخوم البعيدة للتجربة الإنسانية، بدفقها المستمر ودأبها المتصل، حداثةُ الكتابة لديه تتعدى ما هو زائل وعابر ومنقض، لتعبّر عن شغفها بالمضي نحو الجوهر البعيد في أعماق الانسان وهو يعيش كفاحه المستمر من أجل المشاركة في إنتاج معنى ما للوجود. أتقدّم خطوة فأقول: كتابة الياس فركوح تُنتج صيغتها من "الكاتب الملتزم"، حيث يتجلّى الالتزام لديه إسهاماً كلياً في البحث عن الإنسان، ضمن مساحة مضبوطة هي مزيج فاعل من الأدب والحياة، لذلك كان الانسان في مشروعه، مناسبةً لتجديد الكتابة واحتمال عناءاتها. من هنا، فقد نظر الياس إلى كلِّ ما حوله بوصفه إنساناً قيد التحقق والأمل، المدينة، والكتاب، واللوحة، والأغنية، جميعها تذوب في فكرة الحداثة، وتعود لتنبثق من جديد إنساناً يشرب من نبع الحرية الزاخر النقي، وهو ما كان يدعوه لتصوّر مشروعه الكتابي، على اتساعه وتنوعه، نوعاً من "الشهادة" غير المنقطعة وغير المحكومة بظرف، إنما المنقادة لطموحها في إنتاج نص يستجلي ما عاش من تجارب وما رأى من أحلام.

(6)
"في شوارع عمّان الخالية، مواجهاً تخايلات ألوان الدنيا بين الفضي والبرتقالي والرمادي، وعلى وقع "قصار السور" بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد المنبعث من مسجل السيارة، كنت أجدد اكتشافي للأشياء والتفاصيل"..
ـ الياس فركوح، اشهد عليّ، اشهد علينا.

(*) مدونة نشرها الكاتب العراقي لؤي حمزة عباس في صفحته الفايسبوكية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024