نجوى الفؤاد مع سليم بركات... الحوار الناقص الأول

أحمد عمر

الثلاثاء 2019/07/02
امتشقت الهاتف القبضة من غمده، ووقفت كما يقف المحارب في ثغرة من ثغور الحرب، قلت لنفسي يجب أن أهيئ بعض الأسئلة من أجل الحوار، ثم قلت سأطهو بعضها في الطريق مع لحم الأرانب التي تقفز على جانبي الطريق. كنت أضع ملاحظاتي على هوامش الروايات بقلم الرصاص، وسكين السلاح الأبيض، وهي بعيدة وليست في متناولي، وقررت أن أقول له: ويحك يا سليم، ثكلتك أمك، تشارك في مسابقات روايات مع العيال ونتائجها معروفة قبل تدوير الروليت وطرح النرد، أنت يجب أن يكون لك جائزة باسمك مثل جائزة نجيب محفوظ. وقلت سأتهمه بأنه صار يكتب روايات طويلة، من القرن التاسع عشر، وهذه ليست منقصة، لكنها روايات للتسلية والتحلية، ونحن في عصر فيه الشهر كالأسبوع، واليوم كالساعة، لقد ضاقت الأرض بحسّو المرسيني يوماً في رواية "فقهاء الظلام" وضاق الزمان أيضاً، وأسئلة أخرى تعزف على الأوتار التي يحبّها الاستشراق: "سبايا سنجار"، ورواية "ماذا عن السيدة اليهودية راحيل" تعزف على ألحان الذين ظلموا، هل ستكون روايتك القادمة: كيف باع الفلسطينيون أرضهم بدراهم معدودة؟ ما علاقة روايتك راحيل بصفقة القرن؟ وسأزعم أنَّ المشهد الجنسي الإباحي في رواية "حورية الماء وبناتها" بين السيدتين طويل وناشز ومكتوب بالعدسة المقرّبة، وهو ليس كذلك، علّني أعصر قلبه، فتأكل منه الطير. وسأنظر في الأمر، وقد تأخذني الجسارة فأقول له: أنت تذكرني بمضامين رواياتك الجديدة الشعبوية بمهرجين أكراد يظهرون على الفضائيات. شددتُ قوسي وضربت السهم، فخرج لي صوت فتيٌ، نضرٌ، يقفز مثل تيس جبلي، عرّفتُ بنفسي، وسألتُ مرتاباً في الصوت، بعد أن عرفت بنفسي مثل جندي مخُافر في الثغرة، قبل أن يطلق عليه الحرس النار: أهذا منزل سليم بركات؟

قال ملهوفاً منتظراً غرامة ثقيلة: من؟
قلت مرتاباً في صوته الواثب: أحضرتك سليم بركات؟
قال مرتبكاً وكأني أتهمه بإثم أو آتي ببهتان أفتريه عليه: اسمح لي بسؤال، كيف حصلت على رقمي؟
قلت هارباً: كيف الحال، عساكم بخير؟
قال بصوته المتعثر الذي يشبه صوت تلميذ يدخل إلى غرفة المدير لإحضار قطعة طباشير فيثني عليه أحد المدرسين: أقسمت عليك برب الكعبة ومناة الثالثة الأخرى، كيف حصلت على رقمي؟
قلت: أحبُّ أن ألقاكم، فإما أن أدعوكم إلى كوب من الشاي أو القهوة، أو تدعوني إليه في مقهى أو بيت أو حديقة؟
قال : أعتذر يا أحمد.
ونطق اسمي بحبٍّ، وكأنه قطعة من السكر.

قال: أعذرني، أنا لم أعد أعرف كيف أتعامل مع الناس، أخشى أن أفسد اللقاء، أنا لا أفتح بريداً ولا أخرج من الدار، زوجتي فتحت لي من توها ثلاث صحف على الشاشة ومضت لشأنها، وعلّمتني كيف أدحرج عجلة صغيرة مثل الزر، لكنها صعبة عليّ مثل صخرة سيزيف.

فوجئت، سليم بركات مذعور! قلت بصوت بين الشجاعة والرجاء: كنت أحبُّ أن ألقاكم.
تضرّع إليّ من غير اتقان لنبرة الضراعة: أرجوك أخبرني كيف حصلت على رقمي؟

صوته المتلعثم، المغري بالمكائد والصراع والمنازلة أغراني، لكني لم أنهض بعد من لكمة سؤاله، وما نهض هو من لكمة هاتفي. ذكّرني صوته بكتاب لنديم الجسر عنوانه: "قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن"، ويروي فيه قصة سائل طرق باب عالم زاهد معتكف للعبادة، يسأله: هل الله موجود؟ فيخرُّ العالم مغشياً عليه.
قلت: لن نلتقي إذاً؟
قال مرتبكاً يخفي غربته بضحكات غير متوقعة، تشبه ضحكة العذراء التي جاءها أمير يخطبها من أبيها الفقير: أعتذر أحمد.
إذاً لم يخرّ مغشياً عليه، لا يزال بوعيه.
نطق اسمي مرة ثانية مثل قطعة من الملبس في قلبها حبة من الفستق الحلبي..

قال: أنا لا أعرف كيف أواجه الناس، ضحك، سألني بعد فترة صمت سببها لكمات قاضية:
كيف حالك؟
قلت: بخير
قال: خبرني عنك. قلت: أنا أعيش في ألمانيا، ومهنتي الحالية هي الكتابة، أكتب مقال يومياً تقريباً، الحياة باهظة التكاليف هنا، وفي سوريا كنت أعمل مهندساً في شركة تحويل الشتاء إلى ربيع..

ألقى الصمت بجرانه مرة ثانية، نسيت أن أسأله إن كان يتذكرني، كان بيننا مراسلات متقطعة، كل حولين مرّة، أثنى مرّة على قراءة نقدية لي لرواية "الأختام والسديم"، وأبدى ذهوله من فكّي ألغاز رموز روايته، وأرسل الرد مكتوباً ومصوراً "بي دي اف"، ذكّرني وقتها بأبي الهول الذي انتحر بعد أن عرف أوديب سرَّ لغز أبي الهول، فأردى نفسه.

قال: أشعر بالخجل، كتبت جملاً لأصدقاء فوجدتها منشورة على الصفحات الرزقاء، هذا يجعلني أشعر بالعار.
حل الصمت.
قال: قلْ شيئاً؟
قلت: بل قل أنت شيئاً؟
قال: أخبرني من أين عرفت رقمي؟ فرقمي جديد ولا يعرفه سوى أنا وزوجتي؟ قلت: بين كل ذكر وأنثى ثالث اسمه الشيطان، وقد غنمت رقمك من الشيطان من غير مقامرة.

لبث أمَّة، ربما مذهولاً من جوابي، ربما بحث عن اسم الشيطان في "دفتر دار الهباء"، شيطان الذكر والأنثى المتزوجين شيطان غير شيطان الأجنبيين، سليم شاعر، لكل شاعر جاهلي شيطان يأتيه، لافظ بن لاحظ شيطان امرئ القيس، هبيد شيطان عبيد بن الأبرص، وهاذر بن ماهر شيطان النابغة الذبياني، ويقولون إنه أشعر الجن، مسحل بن أثاثة شيطان الأعشى، شنقناق شيطان بشار بن برد، عمرو شيطان الفرزدق، ألا يأتيك شيطان أيها الجاهلي الثاني؟ أليس لك رئيٌ من الجن؟

سكت سليم في آخر الدنيا، كان بعيداً جداً، لكن صوته فتي، نضر، قوي يقفز كتيس جبلي، لقد ألقيت له باباً من أبواب الكهانة، فسكت، وقال: أرجوك أن يبقى رقمي سراً، احتفظ به. سمع حسّاً بجواري كدمدمة الجن، سأل متحققاً كباحث بوليسي مبتدئ: من هذا؟
قلت: واحد بلديات، صديق.
قال: ما اسمه؟ قلت: اسمه أحمد، ومن الصالحين، وتقيّ.
قال: فليتقِ غضبي، ولينسَ رقمي.
قلت: ثق أّن رقمك لن يعلم به شيطان، وللقصة شياطين كما للشعر. كنت أحبُّ أن أزورك، وأهديك نسخة من كتابي الجديد وعنوانه "الحورية العثمانية".

ضحك، ضحكته خارج النوتة الموسيقية، لحن من وتر مقطوع خارج السطر، فيها شغب غير مقصود، تستحق العقاب في المدرسة، مثل علامة ترقيم في غير محلها، فاصلة مكان علامة تعجّب، علامة تعجّب في موضع علامة استفهام، مقول القول في مثابة الصمت، قال وكأنه ينادمني: فيها حكي عن أردوغان؟

قلت: نعم.. أبطال النصوص يتحدثون عنه، بعضهم يحبه وبعضهم يكرهه، وكنت أكلمه وأنا أتابع مثلي غيري أعراس اليسارين العرب والقبائليين العرب، والفرنجة العرب، بانتصار سليل أتاتورك على أردوغان. وانتظرت أن يعلن العالم "العبد" ذلك اليوم عطلة رسمية مثل عيد الجلاء، فما الذي جمع زيت الإمبرياليين على خبز اليساريين؟ وكان المنتصر في الحقيقة هو أردوغان، لكن عاصفة من الحماقة تجتاح العقول. كان حزب الشعب الجمهوري قد دخل الإسلام، وبات الرفيق أكرم إمام يتلو القرآن فسبحان الملك الديّان.

قال: مبروك على الكتاب، قلت: ندمت لأني لم أحضر لك ذكريات الصبا، كتابي: "امرؤ القيد الكردي"، قال: أعتذر أحمد.. اعذرني، لقيت من أمري نصباً، هناك ناس يعادونني ويسيئون إليَّ بشدّة.

ساد صمت، قال: قُلْ شيئاً؟
قلت: بل قلْ أنت شيئاً

مكاسرة غريبة من نوعها وانتظرت كي أعرف أي الفريقين خير مقام وأحسن نديا.

ثم قلت: كنا نخبز خبزاً طيباً، صديقي التقيّ يخبز كل يوم خبز رمضان، ولو كنت تتعامل بالصور في الهواتف المعاصرة لأرسلت لك صورة من الأرغفة الشهية، وكان صديقي أحمد، وهو حلواني سابق يريد أن يعدَّ لك "مشبّكاً" اشتبكت فيه طعوم السكر مع النشاء والقرفة والزيت، لم تأكله مذ ولدتك أمك. المشبك حلوى رخيصة وطيبة، ملكية وشعبية.

اعتذر مرة ثالثة ورابعة ونطق اسمي كأنه قطعة من المشبك نفشت فيه غنم القوم ونحله.
قال: إذاً فلنودع بعضنا.
قلت: وهل تطيق وداعاً أيها الرجل؟

ودّعنا بعضنا.. نطق، شعرت كأنه يريد الحوار أن يطول لكنه مذعور، ولم أعرف كيف أتسلل إلى الحصون: أخبرني من كشف لك رقمي؟ قلت: سأخبرك على ألاّ تعاقب الذي أفشى بالسر المكنون والرقم المصون؟

ذكرتُ له اسم الشيطان، إنه نوبيل، صاح مندهشاً: نوبيل! من أين تعرف هذا الشيطان؟
كأنه خرَّ مغشياً عليه؟
قلت: هذا توفيق من الله. أنا رجل تقيّ أرى ببصيرتي أكثر مما أرى ببصري، وقد كشف ربي لي بعض الأحجبة. للشعراء شياطين، وأنا لي ملائكة.
قال: أقسمت عليك أن تخبرني من أين تعرّفتَ إليه، قلت: هو جارنا في الحيّ الذي حللتُ فيه ضيفاً في أوبسالا، وقد دعوناه لتوّنا إلى الطعام ووعد بالإجابة في الأسبوع المقبل.

تضرع إليَّ أن أكتم رقمه وأغلق سماعة هاتفه الثابت بعد أن انتظر طويلاً حتى أُغلقه فلم أفعل. خشيت أن يقتل نوبيل.

لبثتُ خمس دقائق أسمع فيها نبضات قلب الساعة وهي تتفطر من الوجد، فكرتُ ونجّمتُ كثيراً، وقررت أن أتصل به، مرة أخرى. وامتشقت الهاتف كما فعل قابيل عندما قتل أخاه هابيل، وهو ينحني لالتقاط الحجرة من الأرض، وأصبح من النادمين، وحارَ كيف يواري سوأة أخيه حتى رأى ذلك الغراب المعلّم. وسأخبركم بما جرى في المكالمة الثانية والثالثة بيني وبين "بافي غزو" من صمت وكلام وألحان، يشيب لهولها الغربان والولدان، وسبحان الملك الديّان.
(يتبع...)
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024